أكرمني الأستاذ الباحث خالد بن سليمان بن علي الخويطر بإهداء نسخة من كتابه الذي صدر مؤخراً بعنوان (صالح بن ناصر الصالح سيرة وريادة). وحينما أتممت قراءته اكتشفت فيه الكثير من الأفكار التي تعددت وتشعبت حيث إنه يمكننا تكوين سيرة شاملة للأستاذ المربي، تقصى بها الكاتب الأخبار والأحداث من ولادة الأستاذ وما تأثر به خلال مسيرته بدأ من انتقاله للعراق ومن ثم الكويت والبحرين ودبي ولقاءه بالعديد من الشخصيات ذات الأثر الإيجابي على حياته رحمه الله. وإن مثل هذه المسيرة حريّة بالدراسة والتأمل لأنه يتضح فيها أثر التعليم الجيد على الفرد وما يليه من أجيال ينتقل أثرها على المجتمع، وهكذا إذ أن أثره رحمه الله باقي وامتد لأجيال من بعده. كما أن مما يميز الكتاب أنه أتى على أحداث وتوقف عندها ودقق فيها ومن ثم حللها وأعطى حكما مرتكزا عليها ليتكون لدى القارئ صورة واقعية بعيدة عن العاطفة أو المبالغة. ولعل من تلك الأحداث ما ذكره عن مسيرة مدرسة الأستاذ صالح الأهلية، ثم تحولها لمدرسة حكومية تبعاً للقرار الحكومي بافتتاح المدارس التسع في المملكة عام 1355هـ. كما أعطى القراء -وأنا أحدهم- صورة للمحيط الاجتماعي آنذاك وما يشوب مسيرة التعليم من تحديات نراها تتكرر في يومنا هذا بسيطة لتكون نقطة انطلاق لفهم النمو والقفزات الهائلة التي حققتها المملكة في مسيرة التعليم وتطور في سبيل تحقيق النهضة للوطن.
ومن العجب أن الجهد الكبير الذي قام به بن صالح رحمه الله كان جهداً فردياً توج لاحقاً لتتبنى الحكومة مدرسته الخاصة فتحولها لمدرسة حكومية بلغت عمرها اليوم 87 عاماً امتد أثرها إلى سنين أطول من عمرها ليكون هذا الأثر أمراً يجب الوقوف عنده وتفحصه وفهمه لتقديمه للجيل الحالي من المعلمين والقيادات التعليمية ليروا كيف يكون أثر مهنتهم الشريفة إن أخلصوا بها، حيث يمتد أثرها إلى مدى بعيد، وشكلت مسيرة الأستاذ أنموذجاً رائعاً. إننا أمام قائد تربوي فذ ومخلص ومبادر ولديه إصرار عميق وغاية واضحة في ذهنه.
وكمحاولة لتسليط الضوء على شخصية الأستاذ صالح القيادية، فإنه من المستحيل حصر أثر الأستاذ وقياسه، ولعلنا بدلا من ذلك نذهب إلى ما تميز به الأستاذ صالح رحمه الله من صفات قيادية كما توصف في عصرنا الحاضر لنعطي عمقاً آخر لأهمية القادة المؤثرين في المنظمات التعليمية ولعلنا بذلك نبرز الدور القيادي الذي قام به الأستاذ وبه حصل الأثر على مجتمع إلى هذا اليوم وهو يتذكره وكأنه ما يزال يعيش معهم، وكما نرى أن كثيراً من الدول والمنظمات أيا كان مجالها تعمل على تطوير القادة الذين بدورهم سيؤخذون هذه المنظمات إلى مستويات أكبر لأن المهمة الجوهرية للقادة هي أن يكونوا قادرين على نقل هذه المنظمات لمستويات أفضل وأقوى مثل ما فعل ابن صالح بالعملية التعليمية للمجتمع آنذاك. فمن الواضح امتلاك ابن صالح رحمه الله لرؤية عميقة أراد أن يرى أثرها في المجتمع وكانت الغاية واضحة في ذهنه لما يقوم به وبادر بالعمل متجاهلا جميع المعوقات والتحديات في طريقة وجعل الحوار بينه وبين من عارضوه وسيلة فعالة فنجح في جعلهم في صفه وبها وصل إلى مبتغاه، ولكن قبل أن يحاورهم كان مستعداً بحجج قوية لتقنعهم وتقلب موقفهم. وكمحاولة لربط نموذج ابن صالح في واقعنا اليوم لتقديمه كأنموذج للقيادة التربوية التعليمية في وطننا الحبيب ؛ فإني أشير إلى كتاب العادات السبع للناس الأكثر فعالية لمؤلفه ستيفن آر كوفي، لأقول أنه كان واضحاً جداً أن العادة الأولى (بادر بالعمل) والثانية (ابدأ والغاية في ذهنك) كانت منهجاً غريزياً لدى ابن صالح رحمه الله ولا يقف الأمر على هذه العادتين، بل أترك للقارئ الكريم مطابقة العادات الخمس المتبقية ليرى مدى التطابق الكبير بين حياة الأستاذ صالح وما يدعو له الكتاب من العادات الحسنة.
وإن نحن نظرنا للمجتمع الذي أثر بن صالح، فإنه أيضا يمكن تقديم ما قام به رحمه الله بصورة نموذجية لجيلنا الحالي ليكون أنموذجا مرة أخرى في العملية التعليمية والقيادية للمنظمات أيا كانت، فحينما سأل جيم كولنز في كتابه (من جيد إلى عظيم) أحد أهم الرؤساء التنفيذيين لشركة استطاعت الانتقال من جيد إلى عظيم كيف قمتم بذلك ؟ كان جوابه مبهماً بحيث قال (لا أدري بالضبط كيف حصل ذلك)، ولكن الدراسة التي قام بها مؤلف الكتاب لـ11 شركة من أصل 1435 تتبعها خلال 15 عام يشير بكل وضوح أن النجاح هو بسبب وجود (المستوى الخامس من القيادة) وهي تلك الشخصية التي تتمثل بمن تولى زمام الأمور وتحدث فعله عنه بدلا منه لمن امتلك البصيرة قبل البصر. حينما قرأت ما كتبه الأستاذ صالح لوزارة المعارف كتعريف بنفسه لأغراض وظيفية، رأيت صورة واضحة لقيادي من المستوى الخامس وجد قبل أكثر من 95 عاماً في مجتمع لم يكن لديه تعليماً يميزه. هذا الت صنيف لنوع القيادة اخترعه الكاتب لأنه لم يجد تصنيفاً للقيادات التي تعامل معها أثناء دراسته للمنظمات، وهو أن يكون هناك قائد لديه إصرار ويعرف بالضبط ماذا يجب أن يفعل وأنه منغمس بعمله ولديه إصرار داخلي قوي لتحقيق ما يريد، يضيف الكاتب بأن هذا القائد بسيط جداً في تعامله وأنه (منكر لذاته) حتى أنك لو دخلت غرفة اجتماعات مع فريقه لن تتمكن من معرفته إلا إذا عرف بنفسه. بعد قراءة الكتاب فكرت في هذا الأمر، كيف كان ابن صالح مميزاً بمثل هذه الصفات فقد كان واضحاً إنكاره لذاته وعدم نسبة الفضل له وأنه لم يتحدث عن نفسه أبداً في أي وسيلة إعلامية، حتى في وصفه لنفسه فيما كتبه لوزارة المعارف كان خطاباً بسيطاً لا يعكس قيمته الحقيقية على أرض الواقع وأثره في التاريخ التربوي. إضافة إلى وجود العديد من الصفات القيادية التي تمتع بها رحمه الله مما أبقى أثره وذكره وإلهامه إلى يومنا هذا فمنها امتلاكه لرؤية وتدريب الطلاب على المسرحيات ولعب الأدوار ووضع كل طالب في المكان المناسب لشخصيته وقدراته، وعدم إعطاء المعوقات (وما أكثرها) القدرة على التحكم بالأوضاع، كما نلحظ في شخصيته البساطة وسعة الاطلاع والالتزام العالي والتقدم وعدم اليأس، ومن أهم النقاط كذلك هو كتابته لما كان يجول في خاطره.
وإنه لحري بمثل هذه السير أن تنشر وتذكر ويقتدى بها وأن تُبرز فيها الجوانب المضيئة لإخلاص الأستاذ رحمه الله وحرصه وإنكاره لذاته وتضحيته وإيمانه العميق بجدوى ما يفعل وبُعْدِ أثره، وأن يقدم كرائد للتعليم وشخصية للطلاب في المناهج الدراسية ليروا أثره الحالي ويكتشفوا المؤثر في وقت مضى. فرحم الله الأستاذ وجزاه خير الجزاء على ما قدم.
** **
- م. عبدالرحمن بن حمد الخويطر