د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
ومن المحدثين من خصّ همزة (البتة) بكتاب وهو الشيخ أحمد بن المأمون البلغيثي (1348هـ)، قال في (استدراك الفلتة على من قطع بقطع همزة البتة) «فالحاصل أنّه لم يتعيّن شيء يُقْطَع به دليلًا لأحد الفريقين؛ لأنَّ أحدهما مُدّعٍ للسماع والآخر ينفيه، فكلهم يقول: وصَلْتُ ليلى، وليلى لا تُقرُّ لهم بذلك. لكن ترجح جانب القول بالوصل بأمرين:
الأول: أنّه موافقٌ للقياس.
الثاني: سكوت أهل أصول اللغة، مع أنّهم لا يسكتون عمّا خالَف القياس، بل يُنَبّهون عليه؛ وإنّما يَسكتون عمّا جرى على القياس والأصل اعتمادًا عليه، فإنْ قلتَ: مَن حفِظ حجّةٌ على من لم يحفظ، ومن أثبَت السماع هو الحافظ، فيتقدم، قلتُ: لا بدّ من شاهد على ذلك، بشرط كونه لغويًا نثريًا، وهؤلاء أئمة اللغة الذين بهم يثبت السماع لم يُصرِّحوا بشيء. وحاصلُ ما يقع عليه الانفصالُ أنَّ في ذلك اضطرابًا بين العلماء، والظاهر القول: إنّها وصليّةٌ؛ للأمرين المذكورين»(1).
وأما سعيد الأفغاني (1417هـ) فذهب مذهبًا غريبًا في عدّه قطع همزة (البتة) لغة، قال «وهمزة (البتة) وصل، وهناك لغة رديئة تجعلها همزة قطع»(2). ولا نعلم مصدره في ذلك.
وأشار الدكتور عبدالرزاق الصاعدي إلى المصدر (البتة)، قال «الهمزة في البتة مختلف فيها، هل هي همزة وصل أو همزة قطع، وأرى صحة الوجهين، لأسباب ذكرتها في كلمة نشرت في ملحق التراث بجريدة المدينة بعنوان (همزة البتة بين الوصل والقطع) وأنا أميل إلى أنها همزة وصل»(3).
وكتب د. أحمد عيد عبدالفتاح حسن عنها بعنوان «ألبتة والبتة (رسمًا ودلالةً وبنيةً وإعرابًا)» في منتدى مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية، وبعد ذكره نص ابن البلغيثي الذي ورد ذكره قال «وفي رأيي صلاحية همزة (البتة) لأنَّ تكون همزة وصل، أو همزة قطع؛ فكلا الرأيين صحيحٌ، وإنْ كان التصريح بقطع همزتها لم يرِد في كلام أئمة اللغة والنحو المتقدمين، لكنّه مناسبٌ لدلالة الكلمة على القطع المستأصل، وإذا أدّى قطع الهمزة إلى تعانق الرسم والدلالة، فحبّذا القطعُ!»(4).
وأجاب الدكتور فيصل المنصور عن السؤال «ما وجه قطع همزة (البتة)؟»(5) وذهب في جوابه إلى أنه لا وجه لقطعها، واعتمد في ذلك على ما جاء عند سابقيه من أنه خلاف القياس كما صرح بذلك الإسفراييني وهو أول من ذكر سماعها مقطوعة، وردّ المنصور ادّعاء الإسفراييني، حسب تعبيره، بأنه متأخر ومتفرد إذ لم يذكر قطعها من سبقه على حرصهم على ذلك، وأنه لم يؤيد قوله بشاهد، ورأى أن الإسفراييني توهم فخلط بين معنى (البتة) ولفظها، وهو أمر ألمح إليه ابن حجر وصرح به ابن عاشور، وقد أوردت قولهما، وأما احتجاج المنصور بتأخر الإسفراييني وتفرده فليس برادّ قولَه، لأنّ تلقي العلم في وقته على تأخره كان تلقّيًا مباشرًا عن الشيوخ، ومن المستبعد أن يعرض له الوهم في ذلك. وختم المنصور قوله بكلام متوقف فيه، قال «وإذن فلا يصِح في (البتة) إلا الوصل. ومن قطعها فهو مخطئ سبيل السماع والقياس».
وقبل الحكم على همزة (البتة) علينا التمييز بين حالين لكل ما حُلّي بأل، وهما حال اللفظ وحال الخط، وأما حال اللفظ فإن هذه الهمزة لا يمكن أن تلفظ إلا مقطوعة، ولذلك صلح كل ما بدئ به محلّى بها أن يبدأ بهمزة مقطوعة، ولا فرق بين الهمزتين المقطوعة والموصولة من حيث اللفظ؛ من أجل ذلك قطعت همزات ما اقتضى لفظه أن يسكت على ما قبله ويستأنف بلفظه، فكل همزة وصل قطعت إما أنها في أول ملفوظ أو في درج سكت على ما قبلها، وإن يكن سكتًا خفيفًا، كما سكت حفص في (بلْ ران) فأظهر اللام ولم يسكت غيره فأدغمت في الراء(6)، وما ذكره الإسفراييني من سماع قطع همزة (البتة) ليس غريبًا، ونحن نفعل مثله في خطابنا اليومي نحو قول القائل (لا بدّ من القضاء على الفساد/ اليوم وليس غدًا) بقطع همزة (اليوم) لنبر الكلمة والتشديد عليها، وكذلك (البتة) التي اطرد استعمالها للتأكيد فناسب السكت على ما قبلها وقطع همزتها في اللفظ للتأكيد. ولكن كثرة قطعها في اللفظ لا يخرجها عن وظيفتها التي اجتلبت لها وهي التوصل إلى نطق لام التعريف الساكنة.
وأما حال الخط فلا يمكن أن ترسم على الألف القطعة؛ لأن هذه الهمزة جزء من أداة التعريف ولا يسوغ رسم القطعة عليها وإن لفظت مقطوعة، وكذلك الهمزات في مثل (انطلق، وابن).
وننتهي إلى أن (البتة) همزتها في الخط همزة وصل، وأما في اللفظ فهي كما نفهم من قول الإسفراييني همزة وصل؛ ولكن سمع القطع فيها، فالقطع إذن على مستوى النطق لا الرسم، ويبقى الميل عند الاستعمال راجعًا إلى حاجة الناطق ورغبته فإن رام مزيد تأكيد سكت وقطع لفظًا فقط، وإن لم يرم ذلك وصل. وليس هذا خاص بلفظ (البتة) فكل لفظ رمت قطع همزته لفظًا قطعتها ما كان للقطع مسوغ.
- ** -- ** -- ** -- ** -- ** -- ** -
(1) أحمد بن المأمون البلغيثي «استدراك الفلتة على من قطع بقطع همزة البتة»، تحقيق: عبدالقادر أحمد عبد القادر، آفاق الثقافة والتراث، مركز جمعة الماجد/ الإمارات، السنة،ع33، أبريل 2001م، ص (187، 188). وعرفت هذا الكتاب من مقالة د. أحمد عيد عبدالفتاح حسن عنها بعنوان «ألبتة والبتة (رسمًا ودلالةً وبنيةً وإعرابًا).
(2) سعيد بن محمد بن أحمد الأفغاني، الموجز في قواعد اللغة العربية، ص: 260.
(3) عبدالرزاق الصاعدي، تداخل الأصول اللغوية وأثره في بناء المعجم، 1: 355. ح2.
(4) http://www.m-a-arabia.com/vb/showthread.php?t=18576
(5) نُشر في آسك في 15/ 11/ 1435هـ . وأصل الرأي منشور في ملتقى أهل الحديث في 20/ 9/ 1428هـ وملتقى أهل اللغة في 2/ 11/ 1429هـ. وانظر: مدونة فيصل المنصور
http://faysalmansour.blogspot.com/2016/12/blog-post_23.html
(6) قال ابن خالويه «قوله تعالى: «بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ» [5-المطففين]. اتفق القرّاء على إدغام اللّام في الراء، لقربها منها في المخرج إلّا ما رواه (حفص) عن (عاصم) من وقوفه على اللام وقفة خفيفة ثم يبتدئ «ران على قلوبهم»»، الحجة في القراءات السبع، تحقيق: د. عبد العال سالم مكرم، ط4، دار الشروق/ بيروت، 1401هـ، ص: 365.