عبد العزيز الصقعبي
إلى:..
هل أقول إلى الرجل الذي ألمحه من بعيد وهو جالس على كنبة سوداء في محل بيع عقارات في الشارع المؤدي إلى بيتنا، أم أبحث لك عن اسم، وحقيقة لا أعرف اسمك، سنوات مرت وأنا أراك في مكانك جالسا، أحياناً وحيداً، وغالباً بوجود صاحب المحل أو بعض الرجال، أعرف أنك مدرس، وأعرف أنك تحب الجلوس بحثاً عن الرزق في ذلك المحل من بعد صلاة العصر حتى صلاة العشاء، لكن ما جعلني لا أنساك، هو عدم رؤيتي لك في أي وقت أمر به من أمام المحل، واقفاً، أو عند الباب، أو داخل المحل خلف طاولة صاحب المحل، أنت تحب الجلوس على الكنبة القريبة من واجهة المحل، المحل أشبه بالدكان العادي ليس له واجهة زجاجية، لذا أنت معرض للغبار، على الرغم أنه في ذلك الوقت لم نعرف الغبار كما نعرفه الآن، ومدينة مثل الطائف، المطر ضيف شبه يومي. كنت أسافر وأعود، وأمر أمام ذلك المحل، وأراك جالساً في مكانك، ربما تستمتع بمراقبة المشاة، ربما تتأمل، أنا لم ألحظ طيلة رؤيتي لك التي لا تتجاوز نصف دقيقة وأنا أمر أمام المحل أنك مثلا تقرأ كتاباً، أو صحيفة يومية، وبالطبع في ذلك الزمن لا يوجد هواتف محمولة، أنت جالس وتوزع نظراتك بين من في الداخل، والعابرين أمامك، دائماً صامت، تلبس ثوباً، يتغير لونه مع تغير الفصول، أحياناً تلبس غترة وغالبا شماغ مع عقال نحيف، تحلق ذقنك وتبقي على شاربك الخفيف، قد تبدو مقبولاً، لم أرك طيلة اللحظات، لنقل اللقطات التي ألمحك بها تتحدث، أنت صامت دائماً، ذات يوم طلب مني والدي أن أذهب لمكتب العقار لأخذ مفتاح لشقة قريبة من بيتنا من صاحب المحل، وجدتها فرصة لاقترب منك ربما أصافحك، ربما أسمع صوتك، قد تقول «بلغ تحياتي لوالدك»، ربما هذه الشقة لك، ومعك المفتاح، وتعطيني إياه، أو...، المهم ها أنا أدخل المحل، أنت جالس في الطرف، على كنبتك، لم تنظر إلي، بالطبع ليس من المنطق أن يقف مثلك لطفل أنت أكبر منه ربما بأربعين سنة، ولكن، لم تنظر إلي، ولم تبتسم، ولو ابتسمت سأكتشف أن سبب تلك الابتسام هو رؤيتك عن قرب لذلك الطفل الفضولي الذي يتطلع إليك، ويحدق بهيئتك أثناء مروره أمام المحل، لكن، كأنني غير موجود، أنا أدخل المحل، وأنت جالس تتطلع للشارع، ربما لآخر الشارع، اتجه للعقاري صاحب المكتب، الذي عرفته بنفسي وطلبت منه مفتاح الشقة، انتظرت حتى انتهى من مكالمة طويلة قليلاً، وأشار إلي أن أجلس، وجدتها فرصة أن أرقبك عن كثب، ربما أسمع صوتك، لكن أنت صامت، من امؤكد أنني عندما دخلت المحل سلمت بصوت مرتفع، العقاري رد علي السلام ، وأنت، ربما حركت شفتيك، بالرد، لكن لم أسمعك ولم أشاهدك ترد، أعتقد أنك مدرس في المرحلة المتوسطة أو الثانوية، لم أشاهدك مطلقاً في مدرستنا، ولا في حفلاتها المحدودة، أعطاني العقاري المفتاح، وغادرت المحل، وأثناء خروجي قررت أن تكون المغادرة من جهتك، ربما تستوقفني وتسأل «ابن من أنت؟» لكن هذا لم يحدث، أنت جالس وتنظر إلى مكان بعيد، لم تلمحني، ربما يتبادر إلى ذهن من يقرأ ما أكتبه الآن، أنك لا ترى، وحول ذلك كتبت أكثر من قصة قصيرة، ولدي قصة أيضاً، ولكن أنت تبصر، بدون نظارة، ربما عندما اقتربت منك، أتضحت ملامحك أكثر، هنالك آثار جدري أو حب شباب على وجهك، لا تتضح من بعيد، ولكن لا يصل إلى درجة التشويه، وبشرتك بيضاء، خمس ساعات أنت تجلس يومياً في هذا المكان على تلك الكنبة بعد أن حذفت منها أوقات الوضوء والصلاة، خمس ساعات وأنت جالس وصامت، وبعيد قليلا عن مكان العقاري، حيث يقبع مكتبه آخر المحل وأنت تجلس بالمقدمة، لا أدري كم سنة بقيت على تلك الهيئة، ولكن أنا ابتعدت عن ذلك الحي، وبعد سنوات طويلة عدت إلى ذلك الشارع، خفت أن أراك ما زلت جالساً على تلك الكنبة في مكانك المعهود، ولكن، تذكرت حينها قول الشاعر العذري كثير عزة «لقد زعمت أني تغيرت بعدها.... ومن ذا الذي يا عز لا يتغير» سبحان الذي يغير ولا يتغير، محل العقار وما بجانبه من محلات تحول إلى محل خياطة رجالية، في مكانك بالضبط، في مكانك، منيكان أو لنقل تمثال لعرض الملابس الرجالية، مجسم لثوب صوفي جميل ووضع على كرة تمثل الرأس شماغاً وعقالا أيضاً نحيف، ربما كان عقالك، شعرت بغصة وتذكرتك، رحمك الله حياً وميتاً، ربما مئات أو آلاف الساعات جلستها في هذا المكان، ولكن كنت تمثالاً تدب فيه الحياة.