د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وإنما سأتحدث عنه بوصفه دعاية، وسأبدأ أولاً بالمكان الذي تظهر به عادة الدعاية، وذلك أن غالب وسائل الإعلام، سواء كانت ورقية أو مرئية، تميز المادة الإعلانية عن سواها، بإطار يحوطها عن سواها من المواد، وربما تبدو بصفحات منفصلة عن الصفحات التي تنشر بها المادة الفكرية والثقافية والإخبارية، وقد يضاف إلى هذا الفصل عبارة (إعلانات تجارية)، أو (مادة إعلانية)، مما يؤكد الصفة التي تتصف بها هذه المادة.
وبغض النظر عن قيمة هذه العبارة المضافة في تبيين حقيقة المادة المنشورة، أو أن المادة المنشورة تحتاج فعلاً مثل هذه العبارة لتميزها عن سواها، بناء على أن هذه المادة أصلاً ظاهرة الدلالة، فإن القيمة السيميائية (إن صح التعبير) لهذه العبارة واضحة البيان.
ولكن قبل أن أتحدث عن دلالة هذه العبارة، أريد أن أتحدث عن طبيعة المادة وهي بالإضافة إلى ما ذكرته في المقالة السابقة تعتمد على شيء من الجاذبية في الشكل والصياغة. هذه الجاذبية هي التي تمكنها من تحقيق الرسالة المراد منها، وتسويق المنتج المكتوب عنه، ويمكن أن يقال: إن هذه الجاذبية التي تتوافر عليها المادة الإعلانية هي من أدوات الحجاج التي يستعملها، ومن هنا فهي تدخل في إطار دراسات المغاربة (ويمكن أن يلحق بهذا صورة الفتاة التي تكشف عن شيء من فخذيها، لأن هذه حجة قوية ومقنعة على طريقة الفرزدق)، إلا أنني لن أتحدث عنها من هذه الزاوية، وإنما سأتحدث عنها بوصفه مادة فارقة عن المواد المنشورة الأخرى ما يجعلها قادرة على إخبار المتلقي بحقيقة هذه المادة، ويغني عن العبارة الآنفة الذكر.
غير أن هذه العبارة تمنح وظيفة مختلفة عن الوظيفة السابقة، فهي لا تفصل المادة المعلنة عن المادة الإعلامية الأخرى، وإنما تمنح معنى إضافياً إلى المعنى السابق، يتمثل بالتأكيد على حقيقة أن هذه المادة المعروضة ليست مادة ثقافية، وأنها لا تمت إلى العمل الصحفي من جهة، وهذا يعني بدوره أن الصحيفة تخلي مسئوليتها من صحة هذه المعلومات، أو كذبها، أو عن إجازة هذه المادة بوصفها مادة أدبية أو علمية أو فكرية، وإنما هي مادة تجارية قد قبض ثمن إصدارها، وهذا يعني من جهة أخرى أنها لا ترقى إلى مستوى المادة المنشورة الأخرى أو أنها ربما أعلى قيمة بوصف صاحبها قد دفع للصحيفة عوضاً عن أن تدفع له الصحيفة، وهذا ما يجعلها تقدمها على غيرها من المواد، فيأتي بالصفحة الأولى أو يأتي بالأخيرة، ويأخذ نصف صفحة أو صفحة كاملة، مع أنها تعفي مسئوليتها مما في هذه المادة من معلومات عن المنتج المبيع، وعن صحة ما فيه من معلومات.
بيد أن الأمر المهم، أن المتعاطي لهذه الدعاية سينحو نحواً مختلفاً عن المتعاطي لسواها من المواد، إذ إنه سيكون نظره إلى الجانب النفعي فيها، بما تتضمنه من معلومات عن المنتج عامة، بوصفها تذكر خبراً عن شيء في الغالب يعرفه لكثرة ما رأى إعلاناته، والأمر الأهم أنه سيأخذ هذه المقولة (مادة إعلانية) أو (إعلانات تجارية) بوصفها عقداً قرائياً يحدد تعامله مع هذه المادة وتعاطيه إياها، فهي باختصار تدل على أن هذه المعلومات -كما قلت- ليست منشورة لقيمتها المعنوية، وإنما لما دفع بها من ثمن، وهذا ما يزعزع ثقة القارئ بها، ويجعلها تساوي ما يستعمله العامة في وصف بعض الأحاديث: «خذ وخل»، بمعنى لا تأخذ كلامه مقبولاً قبولاً كاملاً، وإنما خذ بعضاً واترك الآخر، وسمعت تفسيراً آخر لهذه المقولة بأنه خذ شيئاً، ثم دعه.
وأياً ما يكن، فإنها تعني فيما تعنيه نقص الثقة أو انعدامها في المادة المقروءة، وهو الأمر الذي لا يمثل شيئاً مهماً بالنسبة للمتلقي، فقد يأخذ المادة وينطلق منها في بحث حقيقي، وقد لا ينظر إلى المادة، وإنما ينظر إلى جمال الصورة المرافقة، وجمال الطبيعة التي أخذت بها الصورة، وما يصاحبها من مرفقات.
وقد يقف عند معنى المادة اللغوية، وما يتضمنه من معنى اجتماعي طريف أحياناً مثل دعاية رز أبو كاس: «على وين يا عيوني؟؟ كيف تسافر بدوني..!!»، وهي عبارة يمكن أن تقولها المرأة الغيور أو اللعوب لزوجها، وهو ما يضع هذا المنتج الأرز بمنزلة المرأة، أو يجعل المرأة بمنزلة هذا المنتج المعلن عنه، دون أن يأخذ هذا المعنى مأخذاً جاداً، أو أن يشعر بأنه يمثل معنى اجتماعياً ذا قيمة.
إلا أننا يمكن أن نقول إن هذه العبارة التي تستعملها وسائل النشر لتمييز المادة المعلنة من سواها يمكن أن تعد بمثابة عتبة التجنيس -على طريقة جنيت- التي يستعملها بعض الناشرين على المنشورات، فيكتبون رواية أو شعراً أو مقالات على المجموعات التي تضم كل واحد منها.
وهذا ما يحيل الإعلانات إلى جنس أدبي قائم بذاته، ويخرجه من حقل الدعاية، إلى حقل الأنواع الأدبية والفنية القائمة بذاتها، تتماس مع الفنون التخييلية الأخرى التي لا تمثل الحقيقة الهدف الأول منها، أو لنقل على طريقة نقاد النصف الأول من القرن العشرين، يتداخل فيها الصدق الفني ب الصدق الحقيقي، ما يفتح المجال لدراستها، ليس على طريقة المغاربة بوصفها جزءاً من خطاب الهامش، وإنما بوصفها جزءاً من الخطاب الأدبي المركزي، جنساً أدبياً قائماً بذاته، له مواضعاته، وبلاغياته أيضاً.
سأكمل في هذا الموضوع في المقال القادم (إزا الله راد) كما يقول اللبنانيون