سهام القحطاني
«هناك إذن، أشياء لم تتغير في الثقافة العربية منذ الجاهلية إلى اليوم تُشكِّل في مجموعها ثوابتَ هذه الثقافة، وبالتالي بنية العقل التي ينتمي إليها»
محمد عابد الجابري
لقد سعت ديكتاتورية العقل البلاغي إلى إحاطة البلاغة بسياج «التراث» حتى تتحوّل إلى «مسطرة مقدسة» ومسكوكة قياسية كونها أصل النموذج الديني «المُحاكى»، وهذا التوجه حوَّل البلاغة إلى «المقدس المثالي» كونها الأصل المحاكى، وأكرر القول إن هذا الخطأ الذي وقع فيها العقل البلاغي العربي هو حاصل الفهم القاصر للمسلمين الأوائل بأن «النص القرآني» هو «فن قولي يُحاكي النموذج الكامل للغة العرب المتمثلة في لغة قريش»، هذا القصور نزع من النص القرآني إعجازه الفكري، وحصره فيما تعارفوا عليه من «قول فني».
وهذا الأمر ينقلنا إلى محطة أخرى في هذا المقام وهي «فكرية البلاغة العربية» قبل الإسلام.
المتأمل لمفهوم البلاغة عند كل من اليونان والعرب سنجد أن البلاغة عند اليونان هي معادل للمنطق الفكري الجدالي، فقوانينها أُسست في ظل «الجدلية السوفسطائية»، بالتالي فهي وسيلة إقناع لا غاية في ذاتها.
في حين أن البلاغة عند العرب في نشأتها الأولى ارتبطت بالفصاحة حتى أضحت غاية في ذاتها، وظل هذا الارتباط محاطًا بها حتى أصبحت الفصاحة هي المعادل الرسمي للبلاغة، وأصبح الحكم على الرجل في كونه بليغًا بمقدار فصاحته، لا بمقدار ما يحمله من رؤية فكرية مختلفة أو مُضافة، ورغم قوة تأثير البلاغة في تشكيل الأسلوب اللغوي العربي إلا أنها لم تسطع أن تُسهم أو تكون حجر الزاوية في تشكيل خطاب فكري منطقي جدالي عند العرب قبل الإسلام، كما عند اليونان، ولعلنا نُرجع هذا العجز لأسباب عدة، منها:
*غياب الديمقراطية الفكرية والاجتماعية عند العرب، خلاف المجتمع اليوناني، إذ ارتبطت البلاغة بالخطاب الديمقراطي اليوناني، ولعل فكرة «النمذّجة الأدبية» عند العرب كانت من أهم أسباب غياب تلك الديمقراطية والتي أفرزت «أحادية منهج القصيدة الجاهلية» والتي أصبحت فيما بعد «رمزية للجودة والإتقان» عبر العصور الأدبية وصولاً إلى عصر «الإحياء العربي» و»صراع العمودي والتفعيلي والنثري»، هذه الأحادية التي البست شعراء الجاهلية ذات القناع وذات اللسان.
ولعل المعلقات العشر من أبرز آثار ديكتاتورية العقل البلاغي العربي لأن من خلالها فرض لمقاييس موضوعية وفنية واحدة، من يُخالفها يخرج من دائرة كمال الجودة والحسن والمثالية، وهو ما يعني شيوع الصوت الواحد والرؤية الواحدة، وفي المقابل نبذ لكل اختلاف وتجديد كونه ليس من «باب الفصاحة والسلامة».
*غلبة الأسلوب الشفهي على البلاغة، والشفهية هي ذاكرة قصيرة المدى وللحفاظ على حيوية تلك الذاكرة لابدّ من حصرها بالتفخيم والمبالغة والغلو تكثيّف الزينة الأسلوبية للحفاظ على وظائفها الحيوية في الذاكرة الشفهية، حتى وإن جاوزت تلك الخصائص طبيعة الواقع وإحداثياته، ولعل قول عمرو بن كلثوم في معلقته: ملأنا البرّ حتى ضاق عنا **وظهر البحر نملؤه سفينا
إذا بلغ الفِطام لنا صبي**تخرّ له الجبابرة ساجدينا.
نموج لتلك الخصائص وهنا تتحول البلاغة إلى «مصدر للمخادعة».
*غياب الإشكاليات الفكرية عند العرب، إن فكرة الأحادية التي كانت شائعة عند العرب قبل الإسلام بسبب طبيعة النشأة القبلية والتي أورثتهم العصبية، وسلسلة الثأر المتتابعة إضافة إلى التنقل الدائم والنظام الأبوي السائد، كل هذه أسباب أسهمت في غياب الإشكاليات الفكرية عندما العرب.
إن نشأة الإشكالية الفكرية مرتبطة بظروف الاستقرار في مستوياته المختلفة، المكان والأمن والاقتصاد، فالاستقرار مُحّفز على التأمل والتفكر ثم الكتابة والمعرفة وهما محفزان على المراجعة والمقارنة والحوار والاكتشاف والإضافة، والعرب بسبب طبيعتهم غير المستقرة هذه الطبيعة التي أفقدتهم البيئة المحفّزة على التفكير وإنتاج الإشكاليات الفكرية، ولعل «العبادة الوثنية» التي غلبت على تفكيرهم عطّلت قدراتهم التأملية والفكرية، ولذا سعى النص القرآني إلى إعادة إحياء تلك القدرات المعطّلة وتنشيطها عندما ربط الوصول إلى التوحيد «معرفة الله والإقرار بوحدانيته» بالتأمل والتفكّر والمقارنة، أي إنشاء مقومات البيئة الفكرية؛ لأن الإيمان مرتبط بالمعرفة المتجردة من المقتضيات الحسية باعتبارها علامة التأكد واليقين إلى «الحيثيات» المبنية وفق علامات المنطق وسنداتها من براهين عقلية.
يقارن محمد عابد الجابري بين العقل اليوناني والعقل العربي في مسألة التوحيد أو «توظيف فكرة الله» كمحفز للإنتاج الفكري، ففي العقل اليوناني تم «توظيف فكرة الله» من أجل تبرير مطابقة قوانين العقل لقوانين الطبيعة، وبالتالي من أجل إضفاء المصداقية على المعرفة العقلية؛ أي جعلها يقينية،.. أما في العقل العربي كما تُشكل داخل الثقافة العربية الإسلامية فالطبيعة هي التي تقوم بدور المعين للعقل البشري على اكتشاف الله وتبين حقيقته.
هنا في الثقافة العربية ..يطلب من العقل أن يتأمل الطبيعة ليتوصل إلى خالقها: الله، وهناك في الثقافة اليونانية.. يتخذ العقل من الله وسيلة لفهم الطبيعة أو على الأقل ضامنًا لصحة فهمه لها».
-تكوين العقل العربي/محمد عابد الجابري،الطبعة العاشرة 2009-
كانت «قضية البعث» أول القضايا الجدلية بين الإسلام وكفّار قريش باعتبار أن مفهوم «البداية والنهاية» مرتبط بالواقع، وإن إغلاق ذلك الواقع بالموت هو نهاية سرمدية؛ وبذلك فإن قضية البعث هي فكّ الارتباط بين إن الواقع هو المعادل للحقيقة، وما هو خارج حدود فهم وإدراك الواقع أو غير حقيقي.
و مصدر هذه الجدلية هو الإنكار للغيبيات في بنيتها المعرفية سواء الدينية أو غير الدينية في ماهياتها وكيفياتها والذي بدوره هو المكون الرئيس للمحتوى الفكري الذي ينبني في ضوئها العلم الجدلي أو الفلسفي.
فقد عاش العربي في جاهليته داخل إطار الواقع فهو اليقين، فكل موجود يستطيع أن يدركه بمستويات حواسه وفق ما تعلمه من الواقع هو يقين، وخارج حدود ذلك الواقع ومعطياته الحسية هو جنون، ولذلك يتكرر وصف كفار قريش للرسول الكريم بعد آيات البعث والحساب بلفظ «مجنون» -تجلى وصفه عن كل سوء-.
والأمر الأخطر الذي ارتبط بالعقل البلاغي عند العرب سواء في وعيهم أو اللاوعيهم وهو «الخداع والزيّف» ولذلك كان يُنسب القول الفني عظيم الشأن للسحر والكاهنة فهما-السحر والكاهنة- أرفع مقاييس المسطرة البلاغية عند العرب وهما أيضًا رمزان للخداع والزيّف والكذب.
ولذلك لا نندهش عندما يتفاخر العقل البلاغي العربي بمقولة «أعذب الشعر أكذبه».