بدرية البليطيح
طيبته العافية.. أو لا يجتمعان متعة وألم.. سمعناها كثيرا ولكن لن تفهم هذه العبارة جيدا ولن تستوعبها حقيقة، وتعرف أبعادها بشكل واضح حتى تجرب ذلك على أرض الواقع، فكل شيء بلا استثناء طيبته العافية، وبلا الشعور بالعافية وراحة البال لن تتذوق حلاوة شيء مهما حاولت ومهما حاول من حولك إقناعك بذلك، هذا الشعور انتابني ولأول مرة عندما خرجت من منزلي ذات يوم لإجراء جراحة عاجلة يتم من خلالها استئصال المرارة التي أتعبتني مؤخرا ولم يعد هناك مجال لتأجيلها، فاستخرت توكلت على الله ثم حددت الموعد الذي قتلني القلق قبل وصوله، وخلال الطريق كان الجو كما كنت أتمناه دوما لوحة شاعرية بديعة وحالة نادرة قلما تحدث فقد بدت البنايات العالية المرصوصة على طريق الملك فهد كالخيال تسبح بين السحب والضباب وقطرات المطر الصغيرة جدا تراقص ماسحات زجاج السيارة وتداعبها كقطة مشاغبة تلاعب دمية ببراءة، لم تستثر تلك المشاهد الآسرة الساحرة فكري ولم تستطع السيطرة عليه وإخراجه من العالم الآخر الذي كان يحلق به عالم آخر بما تعنيه الكلمة لا يمت بصلة لما حولي من واقع ومشاهد مبهجة للناس وهم يحفلون بوصول المطر، صور وأجواء لم تكن تعنيني أبدا حيث كانت كل حواسي تتجول بين سيناريوهات ومشاهد أخرى، الأطباء وهم يتحركون ويتناقشون وبين إبرة التخدير الكامل التي لم تدخل جسدي يوما ما ولا أتصور إحساسي ومصيري بعد ذلك وبين أصوات المشارط وسيلان الدماء والجروح بين أنامل الطبيب ومعاونيه والأناة والتأوه والتألم والصحوة بعد الغيبوبة المؤقتة هل ستنجح العملية.. مع قناعتي السابقة أنها سهلة وهل سأصحو وأعود لحياتي الطبيعية معافاة؟ ماذا سيحدث من مفاجآت خلال العملية؟ كل ما حولي أسئلة لا تجد إجابة رغم أنها قد تبدو سخيفة لدى البعض لكنها مخيفة، بل مفزعة تلك اللحظات إلى أن تحل السكينة الجبرية وتغيب عن الوعي مستودعا الله جسدك تحت مشرط الطبيب وتترك كل ما خلفك، بل تنساه ولكن رحمة الله واسعة تجد نفسك قد ولدت من جديد وعادت الروح للجسد الذي يصارع لاستعادة الوعي والتوازن.
رغم الضجيج الذي كان يزلزلني من الداخل فقد هدأت نفسي بعد ركعتين استودعت الله بهما نفسي ومن أحب، وبينما أنا استعد لإقفال هاتفي وتبديل ملابسي والتوجه لغرفة العمليات مررت على (سناب) الطبيب الشاب السعودي الطموح الذي سيجري لي العملية فإذا به بصحبة كوب من القهوة يتجول بسيارته بمزاج عال على الطريق بالقرب من المشفى وهو يتغنى بجمال الأجواء الساحرة التي لم يقاومها فأخذ قليلا من الوقت للاستمتاع قبل مواصلة عملياته التي يراها مجرد روتين لا يدعو للقلق.
ولله الحمد تمت الأمور على خير وكانت بالفعل من العمليات السهلة التي لا تستغرق أكثر من ساعة ومزيدا من الراحة، نشكر الله ونشكر هؤلاء الأطباء الشباب الطموحين الذين يقضون جل وقتهم كالفراشات يتنقلون بين العيادات والمستشفيات يطورون من أنفسهم يحصدون النجاح ويرتقون بالوطن ويبثون الطمأنينة ويتواصلون بتواضع مع مرضاهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي فقد كان طبيبي وله جزيل الشكر على تواصل معي استشيره ويرد بسرعة على استفساراتي وحسابه مليء رغم انشغاله بما يفيد ويثري بمجاله الطبي بل قد يشارك متابعيه لبعض عملياته ويقدم النصائح لمن يحتاجها بعض الأطباء السعوديين بل أكثرهم مفخرة يستحقون منا الثناء والإشادة بجهودهم ولا نقول هذا واجبهم نعم هو واجبهم ومجبرين على تقديم هذه الخدمات بحكم عملهم لكنهم عندما يقدمون كل ذلك بحب وبرفق ومراعاة لمن يشكو ويتألم هنا يرتفع رصيدهم وتتجلى الإنسانية وتسري الطمأنينة والارتياح بمن يتعاملون معهم، كل أملي أن تكتمل الصورة فيحيط كل من نال قسطا من العلم شهاداته ببرواز التواضع والإنسانية ولا يسمح للكبر بأن يشوه الصورة فيعلوها الغبار لعدم رغبة البعض بالنظر إليها.