لا يزال بعض الفنانين - وبخاصة الأدباء منهم- يصرون على أنه من الواجب على «المتلقي» أن يرتقي بمقدار معرفته وتذوقه إلى مستوى العمل الفني! وهم بذلك يلغون العنصر الأساسي في العمل الفني، أي الوحدة التكاملية بين الفنان والمتلقي. فالفن الذي ليس له متلقون هو ليس فناً سوى لمن أنتجه. والفن الذي له قلة من المتلقين لا يحظى إلا بقيمة منخفضة مقارنة بالأعمال الفنية التي تحظى بجماهيرية عالية. أي كلما ازدادت رقعة المتلقين للعمل الفني، ازدادت قيمته الفنية.
يتجلى هذا الواقع في الأعمال المسرحية والسينمائية بشكل عام، حيث تُقاس قيمة العمل الفني بشباك التذاكر. ولكن الأدب ليس له شباكاً للتذاكر! وأكثر ما تتوج به أعمال أديب مقتدر، أمضى عمره في إنتاج أعماله الأدبية، هو تكريم بمقال في صحيفة من «أديب» آخر أو حفلة شاي- أو بدون شاي- في نادي أدبي! فهل هذا يكفي للنهوض بمستوى أعلى ومتنامي من الأعمال الأدبية؟
وحتى الأعمال المسرحية والسينمائية والغنائية والموسيقية وغيرها، لا تؤدي بالضرورة إلى ازدحاماً عند شباك التذاكر! والبعض منها باهت ولا روح فيه، وقد يسيء للفنان ومكانته، مقارنة بأعماله الأخرى!
كل هذا الكلام يوحي بأن هناك حلقة مفقودة .. وهذه الحلقة هي «المجتمع» الذي يتجسد نشاطه بمؤثرين هما: الدولة بمؤسساتها الفنية كالنوادي الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون الحكومية والمهرجانات الدورية وما شابه ذلك. والمؤثر الآخر والأكثر أهمية هو مؤسسات المجتمع المدني الأهلية، كالمسارح ودور السينما ومعارض الفن التشكيلي ودور النشر والملتقيات والمنتديات الثقافية وغيرها. وهذه المؤسسات الأهلية تمتلك أهميتها من التنافس فيما بينها. وترتقي بالفنان والمتلقي والعمل الفني كلما اشتد ذلك التنافس.
الجميع يؤكد أن هناك هوّة عميقة تفصل بين الفنان والمتلقي في بلداننا. ولكن وللأسف الفنان يلقي باللائمة على «تخلف» المتلقي والعكس بالعكس. وكلاهما الفنان والمتلقي مخطئ ومصيب في آن! .. كيف ذلك؟
شعوب الأرض قاطبة تعيش في ظل نظام عالمي رأسمالي بلغت وحشيته الحد الأقصى. فهو يسخر البشر والشجر والحجر والبيئة الحاضنة لخدمة المال وليس العكس. وهو ما يجعل هذا النظام يكرس حروباً عسكرية واقتصادية وسياسية وثقافية و»فنية» شرسة، حتى لا يذهب إلى مثواه الأخير! ومن حسن حظ البشرية أنها استفاقت من غفوة كادت أن تنهي العنصر البشري على الأرض. فظهرت أقطاب دولية تقدم الإنسان والبيئة على المال. وهي عسكريا قادرة على لجم وحشية الرأسمال. واقتصادياً أثبتت خلال العقود الأخيرة أن تقديم الإنسان وبيئته على «الربح» المادي المؤقت، هو السبيل الوحيد للبشر للنجاة وتحقيق الازدهار الإنساني المنشود.
بيد أن النظام الرأسمالي استخدم ولا زال يستخدم غسيل المخ من أجل تحقيق «التصحّر الثقافي»، ومقولة الفن للفن من أجل تحقيق «التصحر الفني». وذلك كي لا تصبح الثقافة والفن من ضمن أدوات حفر قبر الرأسمال. وقد يبدو للبعض أن أدوات التواصل الاجتماعي جاءت لصالح «التصحّر» الفكري؛ ولكن الواقع يشير إلى أن من يتخندق ضد الرأسمال؛ يستطيع أن يستخدم تلك الأدوات؛ ليس لصد الهجمات الرأسمالية الوحشية وحسب؛ إنما للانتصار على الزيف المغلف بمقولات؛ كحرية التعبير وحقوق الإنسان؛ والديموقراطية؛ وغير ذلك.
الاستنتاج الجذري مما تقدم هو: أن هناك وحدة تكاملية تضم الفنان والمتلقي والمؤسسات الحكومية والمدنية والتخندق لصالح الرأسمال أو ضده. فبأي خندق تريد أن تكون أنت؟
** **
- عادل العلي