لم يكن صدور الأمر السامي الكريم لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله، باعتماد يوم 22 فبراير من كل عام إجازة رسمية، للاحتفاء بتأسيس الدولة السعودية، باسم «يوم التأسيس» مفاجئاً، ولم أجده مستغرباً؛ بل هو أمر طبيعي مطلوب، وقد صدر في وقته، وجاء في محله، والسبب أنه أمر يصدر عن الملك (سلمان بن عبد العزيز) ولي الأمر القائد (الواعي) بأهمية الوطن وأهمية المواطن وأهمية العلاقة التفاعلية الأصيلة بينهما وجوداً، ونمواً واستمراراً، وحضوراً واستقراراً، وتطوراً وتقدماً، وقوة ومكانة.
وبخاصة أن الملك سلمان، حفظه الله، بإحساسه الوطني، وبوعيه التاريخي، وبتجربته السياسية العميقة، وخبرته الطويلة في ميادين الإدارة والحكم والسياسة، وباعه الطويل في مجالات الفكر والثقافة والتاريخ؛ بحكم دوره العلمي الثقافي بإدارة أهم مركز علمي يُعنى بتاريخ المملكة العربية السعودية، ويُعنى بموروثها الوطني السياسي، والمعنوي، ورعايته ودعمه وتوجيهه، وهو (دارة الملك عبد العزيز) بوصفه رئيس مجلس إدارتها، وربانها الماهر، ومرشدها الواعي الحكيم.
ثم إن هذا الأمر يستهدف، بالدرجة الأولى، مصلحة المواطن والوطن، ويصب في خدمتهما بشكل مباشر، وهو أمر يقع في الصميم من عناية ولي الأمر، والقيادة الحكيمة للملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمين، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، حفظهما الله، واهتمامهما، ويحتل مكان الصدارة في انشغالاتهما، والقيام بمسؤولياتهما تُجاه المواطن والوطن، ورعاية مصالحهما العامة والخاصة، وتأدية كل ما من شأنه ضمان تمكن الوطن وتمكينه، وحفظ أمنه وأمانه ووحدته وتوحيده، وديمومة استقراره، وتعميق الشعور بمكانته في نفوس أهله وحماته؛ رجالاً ونساءً، شيبًا وشبانًا، صغارًا وكبارًا، وهذا الأمر الكريم يعكس لنا ضمن ما يعكس، مدى وعي القيادة السياسية الكريمة، حفظها الله، بأهمية تعميق الإحساس الذاتي لدى المواطن، بتاريخ أجداده، ووطنه، الذي هو تاريخه، بما ينعكس بالضرورة، صيانة للوطن ومنجزاته، ورعاية للمواطن وتحقيق أمنه واستقراره ورخائه.
ولو عدنا إلى الأمر الكريم، لنقرأه في أبعاده العميقة، ولنستبطن مضامينه السامية، ونستكشف مغزاه البعيد، وأهدافه وغاياته النبيلة البناءة الخيرة، لوجدنا أنفسنا أمام أبعاد كثيرة، وعناصر وأسباب عديدة، وراء هذا الأمر الكريم، تقع على قدر بالغ من الأهمية والحيوية والتأثير.
وفي البداية يشير الأمر الكريم إلى أهمية الوعي بالتاريخ والماضي المشترك للدولة ومواطنيها، وقادتها الذين هم من مواطنيها، وما قدموه من أعمال صالحة، وأفعال مأثورة مجيدة، تقوم على تحقيق الأمن واجتماع الكلمة والإصلاح على أساس من الكتاب والسنة: «.. واعتزازاً بالجذور الراسخة لهذه الدولة المباركة، وارتباط مواطنيها الوثيق بقادتها منذ عهد الإمام محمد بن سعود قبل ثلاثة قرون، وبداية تأسيسه في منتصف عام 1139هـ (1727م) للدولة السعودية الأولى التي استمرت إلى عام 1233هـ (1818م)، وعاصمتها الدرعية ودستورها القرآن الكريم وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وما أرسته من الوحدة والأمن في الجزيرة العربية، بعد قرون من التشتت والفرقة وعدم الاستقرار».
ولئن كانت الجذور التاريخية للدرعية تبدأ منذ قدوم «مانع بن ربيعة المريدي، جد الإمام محمد بن سعود، قادماً من قرية الدرعية شرق البلاد، مستجيباً إلى دعوة بعض أقاربه في وادي حنيفة، عام 850 من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم؛ فإن الانطلاقة التأسيسية الحقيقية للدولة السعودية الأولى تبدأ منذ أن تولى الإمام محمد بن سعود القيادة بتاريخ 30 جمادى الآخرة 1139هـ، الموافق 22 فبراير 1727م، فوحد شطري الدرعية، وثبت مكانتها، ونظم علاقاتها بمن حولها من قبائل وبلدان، ونشَّط حركتها الاقتصادية والعلمية، وأمَّنَ طريق الحج والقوافل العابرة في مناطق نفوذه، وتوَّج مآثره العظيمة بمناصرة الدعوة الإصلاحية.
لقد استهدف الأمر الكريم ترسيخ الوعي التاريخي، لدى المواطنين بماضي الدولة، وربطهم بذلك الماضي المجيد، بما حفل به من التاريخ السياسي والحضاري والتراث الثقافي، وتغذية الذاكرة بجهود التأسيس وجهاده، وإثراء بعد الزمن الذي يمثل ركناً أساساً لذاكرة الإنسان، الذي هو في الأساس كائن زماني، يعيش في الزمن بأبعاده الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل؛ الماضي بذكرياته وأمجاده وتجاربه ومنجزاته المتحققة، والحاضر الذي هو زمن واقع يعيشه، والمستقبل الذي يأمله ويحلم بأن يحقق فيه ما يصبو إليه، من مآرب وغايات.
ويُعَد الزمن الماضي، بُعْداً مهماً، وعنصراً حيوياً في حياة الإنسان يمنحها الاتساع في الإحساس بالوجود، والتوازن في معايشة الواقع، والإحساس بالتواصل مع الماضي. والحاضر عمقه في الماضي، والشعور في الحاضر موصول بعلاقة الامتداد بين الماضي ونشدان المستقبل، في ظل شعور متوهج بالمسؤولية في المحافظة على مكتسبات الماضي الذي صنعه الأجداد، والبناء عليه لتحقيق المنجز فوق المنجز، ولولا حياة الإنسان في أبعاد الزمن الثلاثة لكانت حياته ضيقة بائسة محدودة؛ لأن اللحظة الحاضرة لحظة متناهية باستمرار، والمستقبل لحظة مأمولة لم تتحقق، ويبقى بُعْد الزمان الماضي هو البعد المتحقق فعلاً، الممتد تأثيره في ذاكرتنا وجوداً، وفي حاضرنا ومستقبلنا فاعلية وتأثيرًا.
إن الانتباه إلى جهد التأسيس، ومن قام به ومعرفة جهده، وتاريخه، وفضله، وما قدمه من أعمال جليلة، حققت وحدة المكان، ووحدة الكلمة، والقضاء على الفتن، وتأمين الاستقرار، في ظل الأمن والنظام، وتهيئة الظروف المناسبة لإقامة مناشط الحياة الاقتصادية والروابط الاجتماعية، والعلاقات بين القبائل، والمناطق المجاورة للدرعية في ذلك الوقت.
إن جذور الدولة الراسخة في الأرض فكراً وسلوكاً، ووعياً بالماضي ومآثره، وثوابته في العقيدة والعدل والإصلاح، هو الذي مكَّن لها في الأرض ثباتاً وتواصلاً واستمراراً، على الرغم من كل ما واجهته من أعدائها وخصومها المتربصين من مكائد ومكر وعدوان، وذلك ما نوَّه عنه الأمر الكريم بما جاء فيه من قوله: «.. وصمودها أمام محاولات القضاء عليها، إذ لم يمضِ سوى سبع سنوات على انتهائها حتى تمكن الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود عام 1240هـ (1824م) من استعادتها وتأسيس الدولة السعودية الثانية التي استمرت إلى عام 1309هـ (1891م)؛ وبعد انتهائها بعشر سنوات، قيض الله الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود عام 1319هـ (1902م) ليؤسس الدولة السعودية الثالثة ويوحدها باسم المملكة العربية السعودية، وسار أبناؤه الملوك من بعده على نهجه في تعزيز بناء هذه الدولة ووحدتها».
لقد ظل الارتباط بين الدولة وأبنائها قادة ومواطنين، موصولاً برباط مقدس، مغموس في الوجدان الوطني بشعور عميق بمعنى الوحدة، ومؤطر بتعمق الشعور بالأمن والاستقرار، ويظل ربط الأجيال الحاضرة والأجيال القادمة بهذا الرباط النفسي الجوهري، في وجدانهم من خلال وصلهم بتاريخهم وتاريخ آبائهم وأجدادهم، الذين كان لهم فعل أساس مع قادتهم وحكامهم الذين كل منهم من الآخر، عاشوا تجربتهم الإنسانية معاً؛ بحلوها ومرها، وتجسد فيما بينهم عمق العلاقة الذاتية بين الإنسان ومقومات وجوده، وتحققه، وفاعليته، وتفاعله، فالكل شعب ووطن، وكل منهم من هذا الوطن تراثًا حضاريًا وثقافيًا وسياسيًا، وكلهم من تراب هذا الوطن ميلاداً ونمواً ونشأة وأخذاً وعطاء، وعيشاً مجتمعياً متفاعلاً بالتعاون على البر والتقوى، والوطن للجميع، والجميع مسؤول عن الوطن ومعني به خدمة وعناية وحفظاً له ومحافظة على مكتسباته، وحرصاً على أن يقدم له الجميع النفس والنفيس.
يوم التأسيس نعمة من نعم الله، وهي نعمة جديرة بأن نتذكرها، وأن نشكر الله عليها، وعلى كل ما نحن فيه من نِعَم. عاش الوطن، وعاش الملك للعلَم والوطن.
** **
د. محمد بن حسن الزير - أستاذ اللغة العربية وآدابها