د.عبدالله بن موسى الطاير
ازداد قناعة يوما بعد آخر أن ما يجري بسبب أوكرانيا هو في صورته البسيطة صراع أنظمة لا يمكنها التعايش. هناك عداء استراتيجي لم تتمكن السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي مواربته. الأمر لا يتعلق بنزاع دول على مصالح وموارد، وإنما بتنافس أنظمة متوحشة ضد بعضها البعض.
أمريكا تحديدا وفي ركابها بريطانيا والاتحاد الأوروبي تؤمن أن الليبرالية الديمقراطية هي الدين الذي يجب أن يعتنقه أهل الأرض، وهي غير متسامحة البتة مع المخالفين. يمكنها أن تتصالح مرحليا عندما تتقاطع المصالح المؤقتة، ولكن يبقى الغرب غربا والشرق شرقا وبينهما صراع يحتدم تارة ويخبوا أخرى.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية فرضت أمريكا نفسها وصيا على النظام العالمي، وخاضت الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي حتى هزمته نهائيا في ديسمبر عام 1991م. وعلى وحي هزيمة الشيوعية ادعت أمريكا أنها تملك ثقافة ملهمة للعالم، وأسلوب حياة خالب للعقول والسلوكيات وأن لديها القوة الكافية لفرض هذا النظام على العالم. ظنت أمريكا أن روسيا ستتجه رويدا رويدا نحو الليبرالية الديمقراطية وتعتنقها مع الوقت كما فعلت دول أوروبا الشرقية، لكن مرور الأيام وتعاقب السنون لم يزد روسيا، التي ورثت الاتحاد السوفيتي، إلا بعدا عن الأماني الأمريكية، وليس هذا فحسب وإنما احتفظت بسيطرة على محيطها الجغرافي، وواصلت التحكم في خياراته السياسية والاقتصادية، لتشكل حلفا معارضا للهيمنة الأمريكية الغربية وتبرز هي ومن يطوف في مدارها قوة مؤثرة، وبخاصة في سوق النفط والغاز والسلاح. ليس هذا فحسب وإنما توغلت روسيا في الشرق الأوسط الذي كان محرما على وجودها المادي المتمثل بالقواعد العسكرية في سوريا، وجيوش المرتزقة في دول الشرق الأوسط وإفريقيا.
روسيا لم تتمنع على ولوج بيت الطاعة فحسب وإنما واصلت مسارها الخاص في الحكم واضعة الاستقرار أولا، وتبع ذلك تخويل للرئيس بوتين بالحكم مدى الحياة تقريبا. هذه الحزمة من المتغيرات تضع روسيا في مواجهة مع الليبرالية الديمقراطية وبالتالي تصنف على أنها عدو استراتيجي تشد لأجله الطائرات وتحشد للجمه الجيوش، وتحاك لتحجيمه الخطط. روسيا ليست وحدها، بل تقترب من الصين وتعتبر الأخيرة رئتها التي تتنفس بها في مواجهة الضغوط الغربية، وتجد الصين في روسيا حليفا يمكن التعويل عليه على الرغم من العداء التقليدي بين القوتين. روسيا القوة النووية والنفطية ومصدر تدفئة أوروبا الباردة بالغاز، والصين، بحجم سكانها، واقتصادها الضخم، وتفوقها الصناعي تقعان خارج نفوذ العالم الليبرو-ديمقراطي ولذلك فالقوتان مصدر تهديد دائم للقيم الحضارية للغرب وتشكلان تحديا لنظامه السياسي. فالصين مستقرة ولديها رئيس مدى الحياة، وروسيا كذلك، ضاربتان بالقيم الديمقراطية الغربية عرض الحائط.
أمريكا وبريطانيا وفرنسا لم تقف مكتوفة الأيدي حتى نتوقع أنهما غابا عن المشهد واستحضروا الخطر لاحقا، فقد زرعوا في خاصرة الصين هونج كونج وتايوان، وتوسع الناتو إلى حدود روسيا، وحوصرت الدول الآبقة بالاتحاد الأوروبي غربا، ودول أوروبا الشرقية التي قررت الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو الناتو، وشرقا كانت هناك اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، وجميعها آمنت بالقيم الليبرو-ديموقراطية واعتنقت أدواتها في الحكم وتبنت أسلوب حياتها، لكن هذه البؤر وعلى مدة عقود من الزمن لم تنقل العدوى لروسيا أو الصين، ولذلك فإن أمريكا وأوروبا تخترع الأزمات ومنها أزمة أوكرانيا للتضييق على المناوئين العقديين (على اعتبار أن الليبرالية الديمقراطية عقيدة حياة ومنهج حكم).
روسيا والصين تدركان هذا العداء المتأصل، ويبدو أنهما لن يعطيا أمريكا والغرب الفرصة للانفراد بهما، كل على حدة، ولذلك يواصلان التنسيق واجتراح البدائل الاقتصادية والتنظيمية للتغلب على العقوبات الأمريكية.
هذا التبسيط ليس بعيدا عن واقع الحال في قصة أوكرانيا، فرأس روسيا مطلوب ولكن عليها أولا أن تخرجه ليستقر بين النطع والسيف، وهي أمنية لا يبدو أن الرئيس بوتين سيهديها لأعدائه. كما أن الصين تدرك أنها فيما لو تخلت عن روسيا فستردد يوما أكلت يوم أكل الدب الروسي.
لم تستنفذ أمريكا أدوات الإرغام جميعها لحمل روسيا على الإذعان، ولكنها تدرك أن الثلاثين عاما الماضية لم تضع روسيا على طريق السريع باتجاه القيم الغربية، بل ابتعدت بالقدر الذي أبقاها خارج المعسكر بنكهة الشيوعية «الشريرة».
ولذلك فإن الجمع بين الحشد العسكري في أوكرانيا، والتهديد بقوى الإرغام الأخرى كالعقوبات الاقتصادية المدمرة هدفها إنهاك النظام الروسي الحاكم بما يعين القوى الداخلية المناوئة له على تهيئة الظروف لربيع روسي مواتٍ، بدلا من الدخول في حرب مدمرة.