د.محمد بن عبدالرحمن البشر
التاريخ الإنساني مليء بالقصص الجميلة، وغير الجميلة، والحقيقية، والقريبة من الحقيقة التي يتوقف الإنسان عندها، وأخرى يصعب قبولها مطلقاً ومن الأولى رفضها، والمصدر والسند ليس بالضرورة أن يكون هو الأساس في القبول دون النظر الى المتن.
كنت أستمع إلى أحد العلماء الكرام، والذي له متابعون كثيرون جداً، وهو يتحدث عن القاضي عبد الوهاب المالكي الذي أمضى جزءاً من عمره في القرن الرابع عشر الهجري، والجزء الآخر في القرن الخامس عشر، وهو قاض معروف وعالم جليل، كان يسكن في بغداد، عاصمة الخلافة العباسية الصورية آنذاك، حيث كان البويهيون يسيطرون على مقاليد الحكم في ذلك الوقت، وبغداد تزخر بالعلم والعلماء، وعالم عصرنا الكريم كان ينقل للمستمعين والمتابعين عبر قناته، قصة القاضي عبد الوهاب المالكي، وهي قصة لا يمكن قبولها من الذين لا يقبلون الرواية دون دراية، لكن بعضاً من المستمعين، أو أغلبهم يقبلونها كما هي، لأنها صدرت من عالم يرونه أهلاً للثقة في كل ما يرويه، وهو إن شاء الله كذلك، إلا أن الروايات التاريخية التي لا يترتب عليها أمر شرعي، يحسن عدم قبولها دون تمحيص وتفكير، وقد قال في تلك الرواية عن القاضي عبد الوهاب أنه اثناء حياته في بلده بغداد لم يستطع مواصلة العيش هناك، لأنه لم يجد ما يسد رمقه، ولم يجد حتى رغيفاً واحداً في اليوم، فعزم على الرحيل إلى مصر، وبعد أن تجاوز حدود المدينة، وجد حطابين اثنين يجمعان الحطب، ويتناقشان حول مسألة شرعية دقيقة، تتعلق بالحنث باليمين، وقول ابن عباس حول ذلك في استثناء المدة اللازمة لذلك، فلما سمع تحاورهما، تساءل كيف له أن يغادر بغداد وحطابوها يتناقشون في مسألة تتعلق في قول ابن عباس، فعاد أدراجه إلى بغداد لانه يعلم أن بغداد منارة العلم الشرعي، وغير الشرعي، في ذلك الزمن، وقبله من الازمان، لكنه بقي في عوز، ولم يستطع أن يحصل على لقمة عيشه، فقرر مرة أخرى السفر إلى مصر، و بعد أن سار قليلاً، علم بعض من أهل بغداد بذلك، ولحقوا به، وطلبوا منه العودة إلى بغداد، فوافقهم واشترط عليهم أن يوفروا له رغيف عيش كل يوم، لكنه لم يجد أحداً، سواء فرداً واحداً، أو جماعة في بغداد يوفرون له رغيفاً واحداً في اليوم، فواصل سيره الى مصر، وهناك وجد من طيب العيش ما لذ وطاب، لكنه لم يلبث قليلاً حتى ألم به المرض فقال قولته المشهوره (لما عشنا متنا). لابد لي ان اتوقف عند هذه القصة الطريفة التي اكاد اجزم انها غير صحيحة، فإما ان اهل بغداد جميعهم فقراء بما فيهم الخليفة، والملك البويهي، والقاضي، وهذا غير صحيح، أو أنهم بخلاء جميعاً، وهذا مناف للحقيقة، فلدى القاضي من العلم والشهرة ما يجعله يكسب قوت يومه من علمه، وتهافت اطلاب على درسه، ونحن نعلم ان في ذلك العصر كان بعض الناس ينعم بالرخاء، ومعظم اهل بغداد على مر التاريخ كرماء، اعزاء، اسخياء، أجواد كرام، ومازالوا كذلك، لذا كان من الاولى عدم إيرادها، أو التعليق عليها لأنها بعيدة عن الواقع، حتى لا يلتبس الامر على المتلقين، ويعتقدون أن ذلك صحيح، لاسيما إذا كان الناقل أحد طلاب العلم المعروفين. والمتنبي مثال آخر لنسج القصص حوله في البخل، فهو معروف بالبخل، وحدة المزاج، واجمع من ترجموا له على تحليه بهذه الصفة الذميمة، رغم الخير والعطاء الذي وصله من الحكام، مثل سيف الدولة الحمداني، وكافور، وابن العميد، وغيرهم، لكن بعضهم قد بالغ في صنع روايات لا تكاد تصدق، لاسيما ان اعداءه من الشعراء والأدباء كثير فنسجوا لنا قصصاً حول بخله حقيقية، أو نكاية به، كرهاً وحسداً، لحدة طباعه وتكبره.
أورد ابن العميد قصة عن بخل المتنبي، ذكر فيها ان سيف الدولة كان جالساً في مجلسه مع بعض الادباء والشعراء وفيهم ابن خالويه، والببغاء، وغيرهم، فكسر سيف الدولة درة مملوءة بالدنانير، فمد ابن خالويه صولجانه، وكذلك الببغاء مد كمه، وحشيا ما استطاع من الدنانير، والمتنبي جالس لا يشارك في ذلك ظناً منه ان سيف الدولة سيعطيه مباشرة، لكنه لم يفعل، بل رمى بما بقي في الدرة، فتسابق الغلمان يلقطون ما يستطيعون، ولما ايقن المتنبي ان الأمر فاته انحنى مع الغلمان يجمع الدراهم، فغمز سيف الدولة للغلمان أن يزاحموه فركبوا على ظهره، فبعد ان انتهى المجلس، قال ابن خالويه: من تعاظم تلك العظمة، بتضع تلك المنزلة، لولا حماقته. ونقل المقريزي، وياقوت الحموي، أن أبا البهاء كان جالساً عند المتنبي والشمعة تشتعل، وهو يقرأ عليه: فقال المتنبي أوجز، فإن الشمعة توي أي تذبل وتهلك، وهذا كله لا يصح.
هذا قليل من كثير تمتلئ بها صفحات التراث العالمي العربي، حقداً، أو كسباً للمال، أو مبالغة في التقرب، أو ميلاً لعالم، يقول الأصمعي: وصلت بالعلم، وكسبت بالملح.