عبد العزيز الصقعبي
إلى:..
دكانك الصغير.. كان مختلفاً.. مساحته لا تتجاوز ثلاثة أمتار في أربعة، يوجد كرسي خاص بالوسط.. ومجموعة مقاعد خشبية ربما ثلاثة أو أربعة أمامها طاولة خشبية عليها بعض الصحف والمجلات.. مرآة كبيرة أمام الكرسي.. ومرآة مثلها في الخلف.. مجرد أن نقول إن الكرسي هو «كرسي حلاقة» فسيعرف الجميع ما هي مهنتك، واجهة المحل مفتوحة، أما صدر المحل فأتذكر صورة للمسجد الأقصى ومسجد الصخرة، ولوحة كانت معلقة بالركن، كان والدي يحضرني عندك، ويذهب، هو يعرفك وأنت تعرف ما يريد، أجلس منتظراً، حتى يأتي دوري، أعرف ذلك من نظرتك التي توجهها لي، وأيضاً عندما تضع لوحاً خشبياً أجلس عليه ليرتفع جسمي قليلاً على الكرسي وتتمكن من قص شعري، كنت أخافك، ولا أجرؤ أن أبكي أو أهرب، أنا في السنوات الأولى الدراسية، والطريق للرجولة، أستسلم لطريقتك البدائية، وآلاتك اليدوية، أنت بعمر والدي، تقريباً، أشعر أن لديك هم كبير وأمل أكبر، فتحنا أعيننا مع بداية دراستنا لقضيتك، ساهمت مع بقية التلاميذ في الفصل بريال فلسطين، التي عرفناها، وتضع صورة لها في دكانك الصغير، لم أرك تبتسم مطلقاً، و أشعر أنني لو تحركت أو لم أنفذ ما تطلبه مني ستصفعني، لحسن الحظ ليس لي ذقن، ولكن آلة الحلاقة اليدوية تؤلمني، أنت أحياناً تسحبها فتنزع شعري من جذوره دون قص، في الصيف يرضى والدي أن أحلق « تواليت» بمعنى أنه سيكون الشعر نسبياً طويلا، أو فقط سيستخدم المقص والمشط للحلاقة وهذا هو الأهم، لا بأس، كل هذا طبيعي، ولا أحد في غنى عن الحلاقة التي تغيرت الآن بصورة كبيرة عن بدائية الماضي.
لن أتحدث عن مهنة الحلاقة، بل أتحدث معك، أيها الرجل الذي غادرت وطنك مجبراً، لست الوحيد بل كثيرون غيرك، رجال ونساء وأطفال، في ذلك الزمن وعندما كنت أسلم رأسي لك، لم أفكر مطلقاً بمعاناتك، أشعر أنك تمثل دوراً في مسرحية الحياة التي حولي، مثل البقال و بائع الخضروات، وأيضاً الكهربائي والسبّاك، ومصلح الدوافير، ولكن أنت مختلف، نظيف دائماً، وكذلك مكانك، صورة القدس ولوحة بجانبها، ربما مستنسخة للوحة الفنان سليمان منصور «جمل المحامل»، عرفت ذلك بعد زمن طويل عندما بحثت في قوقل عن اللوحة، وتعرف أيضاً باسم « العتال الفلسطيني»، لا زلت أذكرها كيف يحمل رجل على ظهره مدينة، إلى أين سيذهب بها، أم أنها سيعيدها إلى مكانها، لا أدري أين اللوحة الأساس الآن، الغريب أن موقع اللوحة كان في ركن المحل حيث تظهر في المرآة التي خلفي وأنا جالس على الكرسي لتنعكس على المرآة التي أمامي، وأراها، أمامي وخلفي والأساس جانبي في الركن، تقريباً، تلك اللوحة تحاصرني وأنا جلس على اللوح الخشبي مستسلماً ليديك وهما تشكلان هيئتي بشعر قصير.
ربما فضلت أن تعود لتربة وطنك، أو غادرت إلى مكان آخر، ربما أسرتك وجدت مكاناً آخر قد يكون بعيد جداً، ولكن هل لا زلت تحمل على ظهر تلك المدينة، أهي زهرة المدائن التي ذكرتها فيروز، هل تعبت من حملها وتركتها في مكان ما وغادرت، اللوحة باقية، وصوت فيروز كذلك، و كثير من القصص والروايات والأشعار نرددها حتى الآن، عن فلسطين، وأنت لم تعد موجوداً، ولم أجد بعد سنوات رجل يشبهك، هل الذين يحملون قضيتهم على ظهورهم على وشك الانقراض، لا أرى إلا أناس يحملون شعارات بعيدة عن وطنك وقضيتك، أنا منذ ساعات عائد من صالون حلاقة، كبير، أسمع موسيقى، من يعمل به بعيدون جداً عن وطنك، ولا علاقة لهم مطلقاً بقضيتك، إلا فقط للمزايدات، ليست هنالك لوحات بل مرآة أمامي، ومجموعة فواصل بين الكراسي، بالطبع الأمر أصبح أكثر ترفاً، لذا فقد كنت أستمتع بروائح الفواكه المختلفة بعد الحلاقة، وعندك عندما كنت طفلا فلا أذكر سوى رائحة عطر الليمون، مع عبق التراب بعد المطر، هنا الآن يضع الحلاق على وجهه كمامة لذا لا أعرف ملامحه، و أنت عندما أتأمل وجهك عن قرب، أرى معاناة شعب، أخبرني، هل تعب ذلك الرجل من حمل قضيته على ظهره.