هشام بن خالد بن محمد البتال
في عام 2020م كتبت في جريدة الجزيرة الغرّاء نبذة عن بعض التجار النجديبن في الهند بعنوان «تجار نجد» في القرن الـ19 بالهند (1)، وقد خصصتها لشخصيات لم يسلط عليها الضوء من قبل، وحيث أن للتاجر عيسى بن قرطاس مكانة رفيعة في أسواق الخيل العربية، فلعل من المناسب إفراد هذه المقالة عنه وذكر بعض من مآثره ومناقبه الحميدة.
وشخصية موضوعنا، عيسى بن راشد(2) القرطاس، وهو أحد أشهر تجار الخيل العربية، تعود أصوله إلى «حرمة» من «سدير» وقد استقرت أسرته في «الزبير» بعد أن هاجر إليها جدة برفقة عدد من أهالي نجد وذلك ما بين الأعوام 1205هـ - 1215هـ تقريباً.
وعلى الرغم من شهرته كتاجر في «بومباي» إلا أن حي «ذارماتلا» بمدينة «كلكتا» كان يعد بمثابة نقطة الانطلاق، حيث أسس وشيّد فيها إسطبلاً واسع المساحة في مطلع عام 1287هـ(3) بعد أن بدأ نجمه يسطع في عالم تجارة الخيل؛ فمن الدلالات على مكانته في المجتمع المحلي آنذاك أنه رعى أشواط سباقات على كأس «الأسطبل العربي» حيث كانت جائزة الفائز هي 800 روبية هندية مقدمة من قبل الشيخ عيسى بن قرطاس وذلك بحسب مجلة هندية معنية بشؤون الرياضة، وذلك في شهر رمضان من عام 1287هـ(4).
وعن أمانته وصدقه وأخلاقه الحميدة، يكاد لا يوجد أحد يكتب عن الشيخ عيسى إلا ويشيد له بذلك، سواء من صحفيين أو من مذكرات ووثائق الأوروبيين سواءً كانوا ضباطا أو دبلوماسيين أو غيرهم ممن كانت تربطهم تعاملات تجارية معه في مجال الخيل العربية.
فمثلاً، بعد مغادرته «كلكتا» واستقراره في «بومبي» يقول عنه أحد من تعامل معه ويدعى «هاري آبوت» Harry Abbott5:
«للأسف افتقده الكثير من أصدقائه الأوروبيين في كلكتا الذين كانوا يكنون له الإعجاب والاحترام، رغم أنه عربي من الصحراء، إلا أنه كان حقاً رجلاً، رجلاً محترماً، ورجلاً رياضياً».
وهذا يتوافق أيضا مع مديح النقيب ماثيو هوريس هيز Matthew Horace Hayes حيث يقول عنه أيضا(6):
«عيسى دائما يلبس زيه الوطني، وكان مسلما صارما وكان واحدا من أبجل، وأشرف، وأكرم، وأهذب الرجال المحترمين الذين قابلتهم في حياتي».
وكان الشيخ عيسى كثير السفر إلى البلاد العربية للحصول على خيول عربية لجلبها إلى الهند، كما أنه يتمتع بمهارات في حسن تقدير انتقاء أجود الخيول، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في أحد الأخبار عنه في عام 1292هـ(7) التي ذكرت بأنه قضى 8 أشهر في القسطنطينية والبلاد العربية للبحث عن الخيول العربية، وقد استطاع الحصول على التصاريح والموافقات اللازمة لإرسال 50 من هذه الخيول إلى الهند، وجلب 32 منها في معيته وجميعها تم بيعها بسرعة فائقة فور وصولها معه للأسواق الهندية نظراً لجودتها وأحجامها.
وعلى الصعيد الخيري، فكان للشيخ عيسى أعمال خيرية وجليلة كثيرة، منها تعمير المساجد والمساهمة في ترميمها؛ فمن الأمثلة على ذلك، يذكر المؤرخ الغملاس في أحداث سنة 1300هـ ببلدة الزبير(8):
«وفيها عَمَّر الشيخ عيسى القرطاس مسجداً يصلي فيه القبة، ثم حوَّطه بجدار، وبنى منبراً».
كما أسس مسجداً آخر في الزبير في عام 1307هـ، ولا يزال أحد هذه المساجد قائما إلى يومنا هذا (9).
أما وفاته -رحمه الله - فقد كانت في 7 شعبان من عام 1308هـ(10).
وهذه الشخصية، إضافة إلى بعض ممن تطرقت لهم في وقت سابق، مثل عبدالرحمن بن منيع، وعيد التميمي، جميعهم شخصيات وطنية مُشرّفة مثلت الأخلاق والصفات النبيلة التي يتحلى بها أبناء بلادنا الغالية خير تمثيل في البلاد الهندية في تلك الحقبة الزمنية.
- - - - - - - - - - -
(1) الحلقة الأولى كانت عن «عبد الرحمن بن منيع» نشرت في العدد 17426 من جريدة الجزيرة، والحلقة الثانية عن «عيد التميمي» نشرت في العدد 17428.
(2) ورد اسم والده في عدة مصادر منها ما نقله عبد الرزاق الصانع وعبدالعزيز العلي في كتابهما «إمارة الزبير بين هجرتين».
(3) The Oriental Sporting Magazine, 1870. The Calcutta Arabian Stables. 15 April, Volume III.
(4) The Oriental Sporting Magazine, 1870. Prospectus of the Calcutta Races. 22 December, Volume III.
(5) Abbott, H. E., 1896. Sonepore Reminiscences: Years 1840-96. Calcutta: The Star Press. p.15.
(6) Hayes, M. H., 1894. Among Men and Horses. London: T. FISHER UNWIN. p.p.60-61
(7) The Oriental Sporting Magazine, 1874. The Month. January to June, Volume VII. p. 37.
(8) الغملاس، عبد الله بن ابراهيم. 2012. تاريخ الزبير والبصرة مع إشارات إلى تاريخ الكويت والأحساء. دار دجلة. ص 32.
(9) المصدر السابق، ص 50.
(10) المصدر السابق، ص 56.