(يصحو مولودي ليلاً وينام عند الفجر) نسمعها من أفواه الوالدات، لا عبث في الوجود، إنها حكمة الله البالغة، والحكمة وضع الشيء في موضعه، فتبارك الله في خلقه.
البنت أم منذ نعومة أظفارها، أحلى ما لديها أن ترضع دميتها ثم تتركها لتنام، تعود إليها مراراً وتكراراً، بكل سرور وحنان، تضمها إلى صدرها وترضعها، ذلك مظهر من مظاهر التطور النفسي للأم الصغيرة، ثم يتلوه التطور الجسدي للأمومة، وبروز الثدي الذي يعتبر أولى العلامات الظاهرة للبلوغ ومن الممكن أن يبدأ بعمر ثماني سنوات، وذلك تحت تأثير الهرمون المنبه للجراب وهرمون الأستروجين.
ثم يتلوه البلوغ الكامل لتصبح أماً تهز المجتمع، فإن صلحت صلح ولدها وبصلاحه تصلح الأمة، وكل مسؤول عن رعيته.
فغدة الثدي موجودة منذ الولادة، ألا ترين أن المولودة عند ولادتها يخرج الحليب من ثدييها تحت تأثير هرمونات الأم، وهذه النقاط من الحليب يدعوها البعض (حليب الساحرة)، ثم تغيب بعد بضعة أيام لانقطاع هرمونات الأم، ولذلك يوصى بعدم عصر غدة الثدي عند الولادة حتى لا تلتهب، فإن كانت محتقنة فيكفي وضع كمادات الماء البارد لتبريدها فتخف آلام الاحتقان.
وإذا ما قرب زمن الولادة عند الحامل تكون غدة الثدي في أوج نشاطها ونموها كي تفرز الحليب، الذي يخرج من القنينات الصغيرة ليتجمع في مخازن الحليب، أو ما يدعى صهاريج الحليب وهي موجودة تحت منطقة الهالـة، والهالة هي الجزء الأسمر المحيط بالحلمة وليس في الحلمة كما يظن البعض، فما الحلمة إلا قناة يمر منها الحليب من المخازن تحت الهالة حتى فم الطفل، والحلمــة في فم الطفـل تلامس قبـة الفم (الحنك) فتنبه الأعصاب ليعمل منعكس عصبي وهو منعكس المص فيبدأ المولود بالمص.
عملية الرضاعة بحد ذاتها أمر عجيب، عجز العقل البشري عن إدراكها تماماً، وما وصل إليه العلم الآن أمر لا يستهان به إلا أن الأمر ما زال كقطرة الماء بالنسبة للبحر المحيط.
هناك خمسة منعكسات تشارك بشكل أساسي في عملية الرضاعة فأولها:
أ-منعكس عصبي يدعى منعكس الجذر ROOTING REFLX ، وذلك أنه إذا لامس شيء مثل الحلمة خد المولود أو شفتيه أو ذقنه فإنه يستدير باتجاه ذلك الشيء الذي لامسه، وهو غالباً حلمة ثدي أمه، وبهذا المنعكس يتوجه المولود نحو حلمة الأم فيفتح فمه، فتدخل الحلمة، وجزء من الهالة العلوية ومعظم الهالة السفلية في فم الطفل، وبهذا تتوجه الحلمة نحو الحنك فتلامسه، لذلك ننصح الأم المرضع أن تلامس بإصبعهـا خد المولود ليستدير وجهه، ويفتح فمه، فيلتقط الثدي بالشكل الصحيح الذي ذكرت، وليس من الصحيح وضع الحلمة مباشرة على فم المولود فعندها لن يفتح المولود فمه إلا قليلا، وهذا لا يكفي لإدخال الهالة، فالمولود يجب أن يرضع الهالة وليس الحلمة، إن جلد الهالة مزوَّد بغدد دهنية تدعى غدد (مونتغمري) التي تفرز الدهن لترطب الهالة فلا تصاب بالتشقق.
ب- والمنعكس الثاني هو منعكس إفراز هرمون البرولاكتين PROLACTIN REFLEX لأن فم الطفل ينبه النهايات العصبية في الهالة والحلمة، وبدورها تنتقل التنبيهات العصبية (السيالات العصبية) إلى الجزء الأمامي من الغدة النخامية الموجودة في الدماغ، فيبدأ إفراز هرمون البرولاكتين إلى الدم ليصل بدوره إلى غدد الثدي، التي تتنبه وتشكل الحليب، ليكون جاهزاً للرضاعة التالية وليس الآن، لأن الأمر يحتاج إلى أكثر من ساعة من الزمن وكلما ازداد مص الطفل للثدي ازداد هرمون البرولاكتين، وهذا ما نلاحظه في التوائم، حيث يكثر حليب الأم بما يكفي التوائم.
وينصح بالإكثار من الرضاعة في الليل، لأن هرمون البرولاكتين يفرز أكثره من النخامة ليلاً، فكلما أرضعت الأم ليلاً دام حليبها مدة أطول، حتى يستمر بإذن الله تعالى مدة حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة.
ولا خوف على الأم من قلة النوم ليلاً، لأن هرمون البرولاكتين يعطي الأم المرضع شعوراً بالراحة والاسترخاء أكثر، حتى لو نامت ساعات أقل، كما أن هرمون البرولاكتين يساعد على منـع الإباضة، وبالتالي يؤخر الحمل طالما كانت الأم ترضع ولدها عند معظم الأمهات.
ج- والمنعكس الثالث هو منعكس إفراز هرمون الأكسيتوسين OXYTOCIN REFLEX فكلما لامس الطفل ثدي أمه فإن التنبيهات العصبية تذهب إلى الجزء الخلفي للغدة النخامية الموجودة في الدماغ، فينطلق هرمون (كان قد تشكل في منطقة ما تحت المهاد) إلى الدم يسمى هرمون الأكسيتوسين، وإفرازه للدم يكون سريعاً، وخلال دقائق يؤثِّر على قنوات الثدي التي تتقلص جدرانها وخاصة صهاريج الحليب تحت الهالة، فيندفع الحليب خارجاً لفم المولود، ومن الأمور التي تساعد على إفراز هرمون الأكسيتوسين،هو أن يكون عند الأم رغبة في الرضاعة، والأهم من ذلك أن يكون عندها شعور بالثقة بأن حليبها هو أفضل حليب لمولودها.
وفوائد حليب الأم كثيرة منها: وجود بعض عناصر المناعة به، وحرارته المعادلة لجسم المولود، وهو يمنع الإمساك، وسهل الهضم، ويمنع مرض الربو والحساسية بنسبة عالية بإذن الله تعالى.
ومعلوم للجميع أن قطرات الحليب الأولى في الأسبوع الأول تسمى اللبأ، وعامة الناس يسمونها (الصمغة) أو (السرسوب)، ولوحظ أن موت الفجأة عند المواليد يندر عند من يرضعون من أثداء أمهاتهم، ومما يزيد من إفراز هذا الهرمون الذي يدعى الأكسيتوسين هو رؤية الأم لمولودها وسماع صوت بكائه.
كما أن هناك أسباباً تؤدي لنقص إفراز هرمون الأكسيتوسين، مثل الشعور السيئ لدى الأم بأن حليبها لا يكفي المولود، والشك بأن حليبها لا يغذي المولود ولا يساعد على نموه، إضافة إلى أن الخوف والقلق يسيئان لإفراز الهرمون المذكور، وللأسف هناك بعض الأطباء يذكرون للأمهات الوالدات بأن حليبها لا يكفي مولودها، أو أنه لا يكفي لتغذية المولود، ومن المؤسف أكثر أن يصدر مثل هذا الكلام من بعض أطباء الأطفال.
ومن هنا ندرك أن بقاء المولود بجانب أمه في غاية الأهمية، حتى لو أدى إلى جلوس الأم في المنزل حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة.
وتلاحظ الأمهات المرضعات أن الرحم يتشنج أثناء الرضاعة وهو شيء جيد، يساعد على تقلص الرحم ويؤدي لنقص النزيف الدموي وعودة الرحم لوضعه الطبيعي بأقرب وقت ممكن.
د- أما المنعكس الرابع وهو منعكس المص SUCKING REFLEX فيظهر عندما تلامس حلمة الثدي قبة الفم (الحنك) فتتنبه الأعصاب، هناك فيبدأ المولود بالمص، فيخرج الحليب من الثدي لفم المولود، ويمتلئ فم وبلعوم المولود بالحليب مما يحرِّض المنعكس الخامس وهو منعكس البلع SWALLOWING REFLEX حيث تتشنج عضلات البلعوم لتدفع الحليب الموجود في البلعوم إلى المريء ثم المعدة وهو ما يسمى منعكس البلع.
ختاماً.. تعلمنا مما سبق أن وضع المولود مع أمه في اليوم الأول أمر في غاية الأهمية وخاصة في فترة الليل ليكثر عدد مرات الرضاعة. كما أنه ينصح في اليومين الأولين بالإكثار من وضع المولود على ثدي أمه حتى يكثر هرمون البرولاكتين أكثر، فيزداد بالتالي الحليب أكثر، فإذا ما أصبحت كمية الحليب كثيرة فينصح بإعطاء ثدي واحد كل مرة حتى يرضعه المولود لآخره لأن آخر حليب الثدي الواحد غزير بالمواد الدسمة التي تغذي المولود بشكل جيد جداً.والمولود كما خلقه الله تعالى، يصحو ليلاً لتكثر رضاعته من ثدي أمه، فيدوم حليبها فترة أطول لتعطي مولودها حقه وتمامه.
ولوحظ أن بقاء الحليب في الثدي يؤدي لتوتره واحتقانه، وبالتالي تتنبه الأعصاب ولكن عكساً، مما يسبب توقف إفراز هرمون البرولاكتين، ويتلوه نقص الإفراز، ثم نقص الحليب فانقطاعه، فإذا ما حالت الأحوال دون الرضاعة لظروف خاصة لا سمح الله، فيجب على الأم أن تفرغ ثدييها من الحليب حتى لا يتوقف الإفراز.
ومما يزيد من إفراز الحليب أن تأكل الأم الرطب لقوله تعالى وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ، والهز يؤدي لسقوط الرطب الناضج فقط، وهو الذي ينصح بتناوله، حيث إنه يزيد من إفراز الحليب وبطعم طيب خلافاً لمادة الحلبة التي تسيء بشكل كبير لطعم الحليب، فلذلك ننصح بالرطب ولا ننصح بالحلبة.
كذلك من الخضراوات ننصح بالنباتات ذات الأوراق الخضراء، مثل البقدونس والجرجير التي تساعد على إفراز الحليب، وكثرة السوائل، ومن المهم أن تشرب الأم الحليب بشكل كاف، وتأكل اللحوم والجبن والبيض والفواكه بأشكالها كافة، ولا بأس للأم من مراجعة طبيبتها للمتابعة في فترة الرضاعة لمتابعة حالتها الصحية للوقاية من تنخر الأسنان أو فقر الدم وغيرها.
إنها حكمة الله سبحانه، فتبارك الله أحسن الخالقين.