طرأ على بالي تساؤل طالما طرحته على بعض المهتمين في القصيدة العربية حول الطريقة التي كان الشاعر العربي يلقي قصيدته، هل طريقة إلقاء القصيدة عندهم هي نفس الطريقة الموجودة الآن في الأمسيات الشعرية والمنتديات الثقافية؟ أم أن الشاعر يغني قصيدته بطريقة غنائية إنشادية؟
شخصيا أميل إلى أن الشاعر العربي حين يلقي قصيدته يشدو بها مغنياً حتى أن المتلقين من عامة القوم يتغنون بها لهوا ومتعة وطرباً.
والشاعر الفحل هو شخصية لديه رصيد لغوي ومشاعر جياشة أعطاه الله مهارة التركيب اللغوي، وحسن الوصف، ودقة الترجمة للمشاعر، فهو حبَك المشاعر مع الألفاظ بقصيدة عمودية لتتميز عن النثر، وليتغنى بها القوم ،ومن المؤكد أنهم يأنسوا بالتغني بالأبيات كما نفعل نحن حين نكون لوحدنا ونشدوا بأبيات من الشعر فإننا نتغنى بها ونطرب لها وربما يطرب من يستمع لنا إن كان صوتنا يحلو لهم! فأظن هوس الغناء عند البشر من ضمن الغرائز الطبيعية للإنسان فهو مريح للنفس محسن للمزاج مخفف لمتاعب الحياة.
لذلك تولدت القصيدة لتشبع تلك الغريزة خصوصا حينما يكون ملقيها ذا صوت رخيم تمتزج مشاعره مع عواطف الشاعر ليتحول إلى صوت موسيقي آسر.
فالشعر موجود في أغلب المجتمعات قديمها وحديثها بدليل وجود الأغنية في أغلبها ،والأغنية تظل امتدادا لثقافات الشعوب؛ التي من ضمنها الشعر .ثم إننا نقرأ دائما في رويات الشعر (فأنشد فلان) ويبدو أن الإنشاد يعني التغني بصوت عالي.
وفي رواية قصة كعب ابن زهير حين أنشد قصيدة البردة ،بعد ما جاء تائباً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أهدر دمه جاء في أغلب روايات القصة عبارة ( فأنشد).
واستهل قصيدته بالغزل أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصف المرأة أمامه، وفي المسجد النبوي وأمام الصحابة رضوان الله عليهم ،والعجيب أن أغلب المحدثين والفقهاء تقبلوا هذه القصة لشهرتها وتعدد رواياتها من عدة طرق، ومما قاله:
هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً
لا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُ
فالسؤال هنا :هل كعب حينما قال قصيدته قالها منشدا ومغنيا؟أم أنه قالها كما يُقرأ النثر وكما هو في أمسياتنا الشعرية؟
لم ينقل لنا الشعر العربي متواترا بالصوت كما هو القرآن الذي وصل إلينا متلوا متواترا لقداسته ،لذا يصعب التحقق من كيفية إلقاء كعب لقصيدته، والأحرى أنه تغنى بها أمام الرسول وأصحابه فلا يوجد ما ينفي ذلك ،أما في العصر الحديث فجاء الإلقاء عند قلة من القوم بأسلوب ماتع على شكل أغنية ترادفها الموسيقى التي تدعم أحاسيسها بل وقد تضاعف أثر مشاعرها بالقلوب وبأسلوب أخّاذ؛ ينقل القصيدة من كونها أبيات من الشعر إلى آلة موسيقية أخرى، تختلط فيها أحاسيس الشاعر مع نغمات الموسيقى، فتأتي أنيقة الأداء مثيرة للشجن، محلقة بالخيال ،فتربك العواطف وتبعثرها.
فأم كلثوم المغنية الشهيرة تصدرت المشهد في غناء القصيدة العربية ولعل أجمل ما غنت من القصائد العربية قصيدة إبراهيم ناجي:
يا فؤادى لا تسل أين الهوى
كان صرحا من خيال فهوى
كيف ذاك الحب أمسى خبرا
وحديثا من أحاديث الجوى
كما غنت للشاعر أبي فراس الحمداني قصيدة مطلعها:
أَراكَ عَصِيَّ الدَمعِ شيمَتُكَ الصَبرُ
أَما لِلهَوى نَهيٌ عَلَيكَ وَلاصبر
ومؤخرا أبدعت الفنانة المغربية فدوى المالكي في غناء نونية ابن زيدون الشهيرة:
أضحى التَنائي بَديلاً مِن تَدانينا
وَنابَ عَن طيبِ لُقيانا تَجافينا
أَنَّ الزَمانَ الَّذي مازالَ يُضحِكُنا
أُنساً بِقُربِهِمُ قَد عادَ يُبكينا
فأضفت على القصيدة طابعا لطيفا فضاعفت رونق القصيدة؛ حيث روعة التفاعل البديع بين صوت الفنانة وأبيات الشاعر، ونغمات الموسيقى بانسجام فريد، وروعة في الأداء.
** **
- صالح سليمان الربيعان