يحتضن الفضول وحب الاستطلاع فئة كبيرة من الناس، أولئك الذين يزدحمون على المورد نفسه، وتجمعهم وسائل التواصل الاجتماعي رغم شتاتهم، ساعات من الليل وأطراف من النهار يتحدثون بروح تتوق إلى التعايش رغم الاختلاف، فوارق اجتماعية وفكرية وخلافات متجذرة تضرب جذورها في عمق الماضي، صراعات فكرية تتصدر الصورة، يتخبط البعض في دروب تستهلك أرواحهم وعقولهم دون جدوى، ودروب أخرى يفقد فيها الإنسان نفسه ومصداقيته.
فقد انتشرت المساحات التي تتيح لك التعبير عن نفسك وعن اهتماماتك وعن فكرك بتنوع مجالاتها في وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن الاصطدام بالواقع كان عنيفًا ومريرًا، يمكنك أن تلحظ وجود ثغرة بين اللغة المستخدمة للمتحدث والفكرة التي يريد إيصالها، لينكشف لك بشكل جلي أن البعض يعيش في نمطية فكرية استهلاكية تستنزف وقته دون وعي، والبعض الآخر تجدهم متعصبين لأفكارهم أو حتى لتلك الأفكار التي تم استيرادها بقوالب جامدة من مجتمعات أخرى، ويحاولون فرضها بشكل أو بآخر على المتلقين، مما يخلق جدلية تنتهي بتراشق الاتهامات، والتقليل من شأن الآخرين أو علمهم دون أدنى احترام لعقولهم، الكل يقرأ لكن ليس الكل يدرك ما يقول، الأغلب مثقف لكنه لا يحلل ويربط الفكرة بالفكرة التي تتسق معها، نتأمل المشهد بصمت محزن، وسكون لا تملك معه إلا أن تنأى بنفسك عن بعض تلك الهرطقات، يبدو أنه لا يخفى على أحد أن استيراد الأفكار الجديدة المشوهة من مجتمعات لفظتها بعد إثبات فشلها وعدم جدواها- لا يدل إلا على تخلف يستوطن عقول البشرية؛ مما يرجع الإنسان إلى نقطة الصفر.
أن تأخذ الأفكار المجردة دون دراسة تنفُذ إلى دينامية البنية التكوينية النفسية والاجتماعية لبيئتك، سيجعل المستمع لحديثك يقع بمأزق نفسي يصعب تجاوزه بسهولة، فحين يناقش أحد المهتمين أو المتخصصين في قضايا المجتمع، عن فكرة اتخاذ قرار صناعة التغيير الاجتماعي تجده يتحدث بكلام تنظيري بعيدًا عن النسيج المجتمعي، متجاهلاً المعايير الأساسية لتنفيذ فكرته، ومتناسيًا أنه لا بد من دراسة جدوى هذه الفكرة ومدى ملاءمتها، وضرورة البحث والتقصي في تسييل هذه الفكرة من الناحية الاجتماعية أو النفسية على الواقع المحلي.
إن الأفكار التي تستورد بقوالب مطاطية تخلق صراعات غير منضبطة في اتزان الإنسان، وتجعله مفتقرًا إلى السيطرة على الانفلات الأخلاقي في ألفاظه وسلوكه، ومترنحًا تحت نشوة هذه الأفكار غير المجدية. ومن جانب آخر فإن بعض الأفكار المستوردة يصعب تنفيذها على أرض الواقع مهما توهج بريقها اللامع وشعرنا بالإغواء إزاء علامتها التجارية المزعومة بأنها من حضارة متفتحة ومتمدنة، لنصطدم بواقع أليم، كونها لم تصنع خصيصًا لنا، ولم تصمم بقوالب تنتمي إلينا، ولم تكن سوى لأشخاص لا يشبهوننا، فكرة ثلجية تذوب بين أحضان هويتنا، وقيم وعادات وأفكار غير قابلة للتنفيذ حتى وإن تم تحسينها.
لست ضد الفكرة الحسنة التي تخلق علمًا وتطورًا وقفزة بين الحضارات، ولا ضد الأفكار التي تسهم في التنمية الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية، بل هي ضرورة تحتم علينا وجودها لنسير في ركب الأمم المتقدمة، لكن علينا وضع الأمور في إطارها المناسب، إن الأفكار المستوردة أخفقت في تطوير الإنسان من مجتمع معين حينما تطبق بحذافيرها على مجتمع آخر، كما أن النسخ واللصق دون ضوابط وتعديل وتنقيح قد يخرج أسوأ ما في الإنسان، ويجعل الواقع مزدحماً بالإشكالات النفسية، لذلك حينما نستورد فكرة ونرغب بتبنيها يجب مراعاة مدى جدوى تطبيقها بشكلها الصحيح؛ لأنه لا يمكن للإنسان تبني فكرة لا تناسبه ثم يحاول الاستمرار في هذه الحياة دون اتزان حقيقي في أنماط سلوكه وقيمه وتوجهاته التي توافق تركيبته القيمية والإنسانية.
إن انعدام هذا الاتزان يولد انهيارًا وتصدعًا في الروابط الإنسانية، ويولد المشاكل والعنف؛ فنقع بين المطرقة والسندان، وتتحول كل علاقاتنا مع بعضنا ما بين تسلط أو خضوع مما يفاقم المشاعر العدوانية تجاه بعضنا بعضًا.
ينبغي أن نكون على اطلاع بأن تبني الأفكار المستوردة دون بذل جهد فكري لتحليل الواقع وفهمه ودراسته بموضوعية؛ سيقودنا لاضطرابات في الرؤية تتبعها اضطرابات في الهوية وتذبذب وانعدام اليقين في معتقداتنا الفكرية وفقد للمعاني الأخلاقية، وهذا ما نراه جلياً في بعض الحوارات في مواقع التواصل الاجتماعي التي تنطوي على سذاجة في القول وقصور واضح في عمليات التحليل الفكري، كل ذلك بسبب انعدام المنهجية التي ننطلق منها.
ليس من المفيد البحث فقط عن الرضا الذاتي وتسكين مشاعر التمرد ومحاولة التحرر من مطاطية العادات والتقاليد دون التفاف منا حول جوهر القضية الحقيقية الإنسانية؛ إذ نجد حولنا الكثير من الأفكار التي يتم تبنيها دون وعي ولا تفكير؛ ومن هنا ينبغي لنا أن نخضع أفكار غيرنا التي نحاول تبنيها إلى معيار حقيقي له دلالات ومضامين في الموازي ن العادلة، لأن استجلاب الفكرة واجترارها دون تنقيحها، ودراسة تناسقها مع البيئة، وعدم الانفتاح على فهم أبجديات اللغة التي جلبت منها، حتمًا سيقود لهدر حقيقي في القيمة الإنسانية.
** **
- حلا الفهيد
Halaalfhaid22