فيصل خالد الخديدي
الفنان الواعي والصادق مع أدواته وفنه ينتقل برشاقة في بحثه ومشروعه الفني لا تآسره خامة ولا تستوقفه تقنية، بل يجعلها جميعها أدوات في خدمة فكرة أعماله وفلسفة مشروعه الفني، والأمر يزداد صعوبة في التماسك الفكري للمنجز الفني والحضور الفلسفي والموضوعي إذا كان الأمر يتجه للأعمال المجسمة والنحت فالجانب الجمالي غالباً ما يطغى في أهداف النحات والبعض من النحاتين عادة ما يقع أسيراً لما تمليه عليه الخامة فيتنازل لها عن جانب الفكرة والفلسفة والوجدان في عمله الفني ويسلم نفسه وأدواته للخامة ويقع في مصيدة الانبهار بما تجود عليه من مكامن جمالها، ولكن الأمر عند النحات محمد الثقفي يختلف فهو يتقدم خطوات مدروسة في مشروعه الفني، ويتنقل بوعي واتقان بين الخامات والملامس والسطوح في مشروع متنام بين بحث وتجريب واشتغال على الفكرة والمضمون والفلسفة والوجدان بعمل متقن وتقنية عالية وإخراج مدهش يجعل عمله الفني يتجاوز كونه تحفه جمالية ليصل به وبالمتلقي لطرح فلسفي ومتعة بصرية تشغل الفكر وتمتع العين وتسكن الوجدان حتى لو غادر العمل وموقعه.
الفنان محمد الثقفي نحات سعودي أثبت جدارته في ميدان كان مسكوتاً عنه لسنوات ومصدر استهجان مجتمعي بشكل منفر عن هذا المجال ولكن بإصرار الثقفي والعمل بجد استطاع أن يشق طريقه بمنهجية ويثبت وجوده المشرف في العديد من المعارض الشخصية والجماعية والأعمال الميدانية والمشاركات الدولية والمحلية قدم فيها أعمالا بخامات متنوعة بين الحجر والرخام والبرونز والحديد والريزن وتنامت جمالية عمله الفني بشكل متواز مع الفكرة والجانب الوجداني بإتقان في أدق تقنيات العمل وإخراجه وصولاً إلى اختياراته المميزة والمقننة لمسميات أعماله ومعارضه فمعرضه الشخصي الأول (الأسطورة والحجر)، وتلاه معرض (تجليات) وثم معرض (نقاء) وصولاً إلى معرضه الشخصي (غياهب) الذي يقام حالياً في مونو جاليري بالرياض، فمسميات المعارض تعطي العتبة الأولى لقراءة المعرض والولوج لفكرته وفلسفته.
الثقفي ابن الطائف البيئة الجبلية التي أشبعت عينيه جمالاً وتناسقاً وشكلت شيئاً من وعيه بالخطوط والمساحات والكتل والفراغات وألقت بظلالها على هويته الفنية فقدم في معرضه الشخصي (غياهب) خلاصة تجربته التي تجاوزت خمسة وعشرين عاما في أعمال تميزت خطوطها بالانسيابية والاتساق والتناسق وكتل جسد الأعمال رغم لونها الأحادي السواد إلا أنه نجح في استنطاق أكثر من مستوى لوني بتأثيرات مدروسة على سطح جسد المنحوتة بين خدش وحفر وتهشير هذه الثنائيات التي استلها الثقفي من جسد مصمت بالسواد وخلق من الأضداد والتباينات توافقات وتماثلات وهي ذاتها الروح التي أخرجت الخط المستقيم ليعانق العشوائي والمنحني، وجعلت السطح الناعم والخشن يتعاضدان في إبراز الجمال كأي ثنائيات متضادة تشترك في إبراز بعضها البعض بتناقضها واختلاف طبيعتها وهو ما أشار إليه الثقفي في بيان معرضه الذي جاء فيه (الانسان ابن مجتمعه وبيئته التي عاش فيها وعندما نتأمل المجتمع الذي يحيط بنا نجد الكثير من الثنائيات والمتضادات فنجد الخير والشر، والليل والنهار، والحب والكراهية، والأبيض والأسود، وأحيانا تجتمع تلك الثنائية والضدية في النفس البشرية حتى تسيطر على تفكيره فتجده مشتتا ما بين القلب والعقل وتجده في صراع مستمر في غياهب هذه الحياة داخل وعاء يجمعهما وهو ذلك الجسد فتجده يمر في طريق معتم يحاول أن يتلمس بصيصاً من الضوء كي يقوده للطريق الصحيح، فهو يكابد رغم الألم رغم الانكسار ويحاول جمع همومه ورميها خلفه ويستمر بحثًا عن مكامن الجمال حتى لو جرح مشاعره فالورد محاط بالأشواك، ومن خلال معرضي هذا حاولت التركيز على الفكرة والخامة والموضوع ووضعها في قالب واحد وربطها بحياتنا وما نعيشه من متضادات تستقيم تارةً وتميل تارةً أخرى فالفن بالنسبة لي كمداعبة الربيع لأديم الأرض بعد قسوة الشتاء اشتغل الثقفي في أعمال غياهب على هذه الفكرة والفلسفة وترجم هذا الإحساس بروح الفنان الذي لاطف قسوة الحجر وسواد لونه ووظف طبيعة الخامة واستطاع أن يجعل منها أجساد متسقة تقترب من رقة الأنوثة وشموخها واستنطق غياهب هذا السواد والجمود وجعل منها قطع جمال وليونة وتباينات ضياء أنارت عتمة السواد وأخرجت سلسلة متصلة من أعمال إبداعية نمت بشكل متماسك تجرد فيه الشكل المادي المحسوس وبقيت العلاقات الحسية التي تنبض بالجمال في كل عمل وترتبط بسابق أعماله وتشي بقادم خطواته في مشروعه الفني المتواصل.