د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وكما أن النظر في الثيمات المكونة للإعلان يكشف عن الأسباب الحقيقة وراء تأثير الإعلان بعيداً عن كونه إعلاناً وبعيداً عن المنتج الذي صنع لأجله منذ البدء، فهو يسهم في الكشف عن جانب آخر من تأثير النص، أو لنقل عن نتيجة مغايرة لتأثير النص لا تقوم على الحزن، أو الغضب أو الفرح كما هو عادة النص الأدبي، وإنما تقوم على إثارة الإعجاب الذي يؤدي إلى شراء سلعة وترك أخرى كما قلت من قبل، وهو تأثير محسوس ورغبة معتبرة لأنها تغطي حاجة مادية يومية من حاجات الإنسان، وذلك باستخدام الوسائل الفنية دون أن يكون الهدف الأصلي فنياً، وهو ما يتيح فصل النص الإعلاني عن غرضه الأصلي ودمجه في غرض اتصالي أوسع هو الغرض الأدبي والفني، أو لنقل إنه يوسع المجال الأدبي من أن يكون معنياً بالمشاعر لجانب معنوي نفسي كبير لأن يكون شاملاً للجانب النفعي المادي في اليومي -كما يقال-.
وهذا القول لا يلغي إمكانية نسبة الإعلانات التجارية إلى حقل آخر غير الأدب، وهو الإعلام، بوصفها عملاً إعلامياً متكاملاً، تؤدي رسالة إعلامية وهي تسويق المنتج، وذلك بناء على أنها تستعمل الإعلام وسيلة لها، كما تستعمل الإمكانيات الفنية والإبداعية السابقة، فإذا لم تكن جنساً أدبياً قائماً بذاته فلا مناص من أن تكون حقلاً من الإعلام لا يختلف عن فنون الإعلام الأخرى، وإن كان الهدف منها اقتصادياً في المقام الأول.
على أن الصلة بين الأدب والإعلام صلة معقدة، لا يمكن اختزالها بالتقسيم الأكاديمي أو المهني، فمن المعلوم أن الأدب هو مادة الإعلام، والإعلام هو وعاء الأدب وإن كانت النظريات والسياسات، والوسائل الإعلامية تتجاوز الأدب بوصفها فناً مستقلاً قائما بذاتها، وتعنى بمجال مختلف عن الأدب، والحديث فيه كما يقال حديث ذو شجون.
إلا أنني أريد أن أركز حديثي على الجانب غير الدعائي في الإعلان، وربما يتصل في دراسات الهامش كما هي عند فوكو والذي قامت عليها دراسات الحجاج في الخطاب الإشهاري، مع أنه ليس من اليسير القول بإن الإعلان يعد من الخطاب الهماش، وذلك لحضوره في الحياة اليومية، وانتشاره وتعدد وسائله حتى أصبح حقلاً قائماً بذاته، نراه في الصحف والمجلات، وفي القنوات الفضائية، وفي اللوحات الإعلانية على جنبات الطرق السريعة منها والبطيء، الرئيسي والفرعي، الفسيح منها والضيق، الطويل والقصير، وغير ذلك من الوسائل التي نتعامل معها حتى ولوكان هاتف الجوال أو كيساً قد حملنا به أغراضاً من إحدى المحلات.
هذا الحضور الكبير يجعل من المشكل حقاً اعتبار (الإعلان) من خطاب الهامش، خاصة إذا أضفنا إلى ذلك تعدد أنماطه، وأشكاله، وفنونه، وموضوعاته، وإذا أضفنا إلى ذلك كذلك إمكانية تحميل الإعلان في بنائه رسائل سياسية أو أيديولوجية تتجاوز المنتج المعلن عنه، كما تحدثت في مقالاتي عن الوشاية، وخاصة إذا كانت هذه الرسالة من الوضوح بحيث لا يخطئها الملاحظ، بل قد تكون من الوضوح ما تغطي على الدلالة الأصلية للإعلان حتى ليظن الظان أن المعنى الجانبي أكثر أصالة من المعنى المركزي له، وإن نفى ذلك المعلن.
فإن هذا النفي لا يمثل شيئاً بالنسبة لهذه الدلالة الواضحة التي ينضح بها الإعلان، لا سيما إذا كان ذلك يتصل بظروف اجتماعية تاريخية تفرض هذا الارتباط بين المعنى الجانبي والمعنى الأصلي.
على أن هذا القول عن المعنى الجانبي يعيدنا إلى الدائرة الأولى من إشكالية التصنيف، حيث إن مفهوم الأدب -كما أسلفت- يتمحور حول استخدام أكثر من معنى للنص (الجملة فما فوق)، واعتبار هذا المعنى حاضراً في بناء النص وفي توظيفه، وحين نقر بأن النص الإعلاني يحمل هذه المعاني المختلفة، وقادر على إيصالها في الوقت نفسه، فإننا نقر بالوقت نفسه بدخوله عالم الأدب، وانتمائه إلى حقله، وهذا ما يعني أنه يمنح هذه المعاني حضوراً كبيراً في النص عند تكوينه، وعند تلقيه أيضاً، ويعزز خروجه عن القصدية أو النفعية التي تحدثنا عنها سلفاً، ويجعل تأويله أمراً مقبولاً بوصفه نصاً أدبياً، وهو ما يقضي بخروجه من الخطاب الهامشي إلى الخطاب المركزي.
بل إنه ليذهب أبعد من ذلك حين يتجاوز في أثره المنتج الأصلي لينفتح على جميع القضايا الاجتماعية وربما السياسية أيضاً، ويتحول إلى خطاب دعائي إعلامي لقضايا اجتماعية أكثر خطورة، وهو ما يؤذن بالقضاء على الهدف الأصلي من النص، وهو الإعلان عن المنتج، وهذا سيفضي بنا إلى الحديث عن طبيعة بناء العمل الإعلاني، والقدرة على المواءمة بين الرسالتين أو إخفاء إحداهما داخل الأخرى.
خاصة وأن الحضور الفني في العمل الإعلاني يمنحه حظوظاً على غيره من نصوص الهامش سواء كانت عقوداً أو قوانين، للالتحاق بنصوص المركز، والانتماء إلى المؤسسة الأدبية، والتمتع بكل الميزات التي تمنحها، ويزيد من عقدة التداخل بين الأدب والإعلام.