سهام القحطاني
«حقيقة الخطاب تكمن في كونه يُضيف إلى القصدين التخاطبيين - التوجد والإفهام- قصدين معرفيين هما: «قصد الادعاء» وقصد «الاعتراض» -طه عبدالرحمن-
بدأت الحركة النهضوية للعرب المسلمين بعد عصر التدوين وتعلّم العرب القراءة والكتابة والاطلاع على موروث الأمم المهزومة من فرس وهند ويونان، وقد أسهم التدوين في تقعيد البنية التحتية للكثير من العلوم مثل اللغة والنحو والفقه والتفسير والبلاغة والتي انطلقت من دائرة العقل البلاغي التقليدي، لذلك لا نندهش عندما «قدّموا الشعر على النص القرآني» وأوقفوا مسطرة قياس الصحيح والفصيح على القرن الثاني الهجري، وهذا المنهج القياسي أنتج الصراعات الفكرية والمذهبية بعد ذلك وأشعل فتيل العنصرية في المجتمع الإسلامي عبر «الشعوبية»، وارهصت لعملية تحول العقل البلاغي العربي من البيان إلى الفكر عبر منهج الجدل؛ أي تحرير الكليات من «الثابت إلى المتحول» وتفكيك التفاصيل التي يرى البعض أنها مقاعد للشيطان وإعادة صياغتها وفق الرؤية الثقافية الجديدة للعرب المسلمين في العصر العباسي الذي شهد انفتاحا ثقافيا وفكريا هائلا تراجعت في ضوئه «ديننة الثقافة والأدب والفكر» ولعل «شعر الخمريات» كان من أبرز مظاهر «علّمنة الشعر» في ذلك العصر، وشعر المثلية الجنسية أو كما سُمي شعر «التغزل بالغلمان» الذي شاع في العصر العباسي والأندلسي، ويعد كتاب الجاحظ «مفاخرة الجواري والغلمان من أشهر الكتب التي وثّقت تلك المثلية الجنسية.
ما أقصده هو أن الانفتاح الاجتماعي في هذا العصر كان مساهما رئيسا في الانفتاح الفكري فتجاوز حدّ المُحرمات على المستوى الاجتماعي شمل كذلك تجاوز حدّ المحرمات على المستوى الثقافي والفكري، فتجاوز الحدود هو مؤشر للانفتاح بصرف النظر عن وصفية ذلك المؤشر وتقديره.
في نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي بدأ العقل البلاغي العربي يتحرر من قيود النسقية والأبوية الثقافية التي ورثها من الجاهلية وكان التنوع العرقي والثقافي والديني داعما لذلك التحرر الذي كفل حرية الرأي والمعتقد.
كان العرب قبل الإسلام أمة بلا دين فهم وثنيون، والوثنية «ليست دينا» بل هي «عبادة بلا فكر»، لكن بعد الإسلام بعد تحولهم من اللا دين إلى «الدين الإسلامي».
الذي شكّل لهم عقيدة لها تشريعاتها وضوابطها وقوانينها ومعاييرها الثقافية.
والعقيدة هي منظومة فكرية في ذاتها، وظل الجانب الفكري لهذه العقيدة متواريا بسبب سلطة العقل البلاغي التقليدي الذي فرض «النقل» كقياس أحادي وكلي على أي فعل فكري وثقافي، حتى ظهرت الثورة الفكرية الكبرى للعقل العربي وهي»المعتزلة».
تأسست هذه الثورة الفكرية -المعتزلة-» على أن «العقل هو مصدر الحكم والتقويم والصحة» باعتباره الأصل الذي اعتمد عليه النص للهداية، وهذا القول تعارض مع ما أسسته ديكتاتورية العقل البلاغي التقليدي بأن «النص» هو مصدر الحكم والتقويم والصحة» وبالتالي فهو الأصل الذي يؤسس في ضوئه معارف العقل.
وبذلك أصبحت «مسألة النقل والعقل» الجدلية الأساسية لتلك الثورة الفكرية بقيادة المعتزلة.
تعود بداية المعتزلة إلى القرن «الثاني الهجري» نهاية العصر الأموي، وصُنفت المعتزلة «كفرقة كلامية دينية» في حين أنها «مذهب فكري» ولعل هذا التصنيف يعود إلى طبيعة «المحتوى الموضوعي» للمعتزلة، ذلك المحتوى الذي ركزّ على المسائل الفكرية في الدين «المسكوت عنها» أو «المحاطة بحدّ حرمانية التفكير فيها وتفكيكها» وهي «أسماء الله وصفاته» التي لعب فيها «التحليل اللغوي»أو التفكيك البنائي للفظ وتحويله إلى دلالة فكرية دورا رئيسيا في فكرنة البلاغة العربية وتأسيس البنية الأولية للفلسفة الإسلامية.
تأسس فكر المعتزلة على «رفض كل ما يدخل في الكلي والقطعي» لأن الإيمان «بالكلية والقطعية» هي أحادية معطِلة «للعقل» ومن هنا جاء مبدأ هذا المذهب «المنزلة بين المنزلتين» وبهذا المبدأ تجاوزوا «الحكم» إلى «العلة»، وبالتالي تشكّلت مسطرتهم القياسية على الاقتضاء لا على المعيار.
كما أسست المعتزلة فكرة أن الإنسان «وحدة مستقلة في ذاته» وتلك الوحدة نفت عن الإنسان صفة كونه «مخلوقا» إلى «كونه خالقا» باعتبار ملكيته للمشيئة والوعي والاختيار وصناعة الفعل، وهو ما صدّر فكرة المستويات والحدود بين الإلهي وغير الإلهي.
وقد رأى معارضو المعتزلة أن قولها «بالحرية الكلية بما فيها الحدّ وغير الحدّ» ما بين الإلهي وغير الإلهي هو فكّ ارتباطه بالخالق الأول، وقفت الأشعرية في وجه تلك هذه الفكرة وحاصلها من الدلالات ودخل المذهبان في جدّل فكري خلق منظومة حجاجية مالت إلى تفكيك اللفظ ودلالاته، وكانت من نتائج هذه المنظومة الحجاجية ظهور «نظرية النظم على يدّ عبد القاهر الجرجاني».
فلم يصبح اللفظ أداة للتعريف أو قالباً بيانياً بل أصبح إشكالية دلالية، وبذلك تجاوزت البلاغة كونها صيغاً بيانية إلى علامة فكرية، وتخلصت من وظيفتها القديمة «الإمتاع» إلى وظيفة جديدة هي «الإقناع والاستدلال» أي «منّطقة القول البلاغي» واستبدال أساليب الضغط اللفظي من سحر البيان إلى الحجة؛ أي التحول من التأثير الوجداني « التأثر والتقدير» إلى التأثير العقلي «التفاعل والتغيير» وهو ما مكّن العقل البلاغي العربي لأول مرة من صناعة «خطاب فكري».
«إن حقيقة الخطاب ليست مجرد الدخول في علاقة مع الغير، وإنما هي الدخول معه فيها على مقتضى الادعاء والاعتراض، بمعنى أن الذي يحدد ماهية الخطاب إنما هو العلاقة الاستدلالية وليس العلاقة التخاطبية وحدها، فلا خطاب بغير حجاج»-كتاب التكوثر العقلي، طه عبدالرحمن- لم تُسهم فقط المنظومة الحجاجية للمعتزلة ومعارضيها في نشأة نظرية النظم وزرع البذور الأولى للفلسفة الإسلامية، بل طرحت لأول مرة فكرة «نزعة الشك المعرفي» تلك الفكرة التي كانت بمثابة الانقلاب الحقيقي على العقل البلاغي وقدسيته.