د. معراج أحمد معراج الندوي
الصمت لغة لا تقل أهمية عن اللغة المعبر بها في الكلام، الصمت هو جزء من الخطاب، لا يمكن الاستغناء عنه لما فيه من فوائد تغذي اللغة وتؤمِّن التواصل وتضيء المعنى الذي يصير معقولاً وقابلاً للتبليغ. قد يكون الصمت في كثير من الأحيان أبلغ، لما يختزنه من حكمة ودرء للمفاسد التي يمكن أن يتسبب فيها الكلام. يعد الصمت في المرجعيات الإسلامية مصدر خير في كثير من المناسبات التي تقتضي حفظ اللسان.
ويمكن الوقوف على سبيل المثال عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.»، حيث بيّن الحديث أن الإيمان يكون مقترناً بحفظ اللسان، عندما يتعلَّق الأمر بما ليس فيه خير يثاب عليه المؤمن، وبذلك يصير الصمت حكمة حتى لا يرتكب المرء المعاصي بسبب لسانه.
إن للصمت أهمية قصوى في إبانة المعنى الذي قد يعجز الكلام عن تبليغه. وهو ما جعله محط اهتمام ثقافات مختلفة انتبهت إلى هذه الأهمية منذ القدم، إلى درجة أنها كانت تفضله عن الكلام في كثير من الأحيان. الصمت بوصفه سبيلاً إلى تجنيب المتكلم سقطاتٍ كان يمكنه الوقوع فيها إذا تكلم، هو نوع من الكشف عن المعاني التي يحملها الصمت، يمكن أن يكون السكوت أفضل إذا كان في الكلام ما يجلب الشر.
تجمع سائر الثقافات المختلفة على أن الكلام يحمل طاقة تعبيرية يستمدها من اللغة التي تتحكم فيها الروافد الاجتماعية، بيد أنها طاقة تختلف من مجتمع إلى آخر على حساب الصمت الذي لا يمكن استغناء الكلام عنه، لأن الصمت والكلام هما وسيلتان لإيصال المعنى، ففي الثقافة الفارسية، فقد ربطت الصمت بالحكمة، وهو ما ينم عليه قولهم: «يصبح الإنسان حكيماً بالسماع، فالحكمة عند الفرس، هي قدرة يكتسبها المرء بمداومته على الإنصات للآخرين وليس من كثرة كلامه، وبذلك يصير الصمت في هذا السياق نشيطاً وممهداً لكلام يفيض حكمة.
لقد عرف الصمت حضوراً بارزاً في الثقافة العربية القديمة، حيث يعُدّ مكملاً للكلام وليس بديلاً عنه، وبذلك فهو أحد سبل الإبانة التي تغذي تواصل الإنسان في محاوراته المختلفة، إذ تحول الصمت أو ما يدل عليه في بعض القصائد الحديثة إلى رمز شعري، له دلالة على أن المعنى في القصيدة لم يعد محصوراً في لحظات تعبير الشاعر بواسطة اللغة، وإنما في فترات الصمت التي قد تحمل في طياتها حكمة لا تتحمّلها الأساليب اللغوية مهما بلغت درجة شعريتها.
الصمت عند الشاعر بديلاً عن الكلام الذي لم يعد يُجدِ نفعاً، وإنما يزيد من تأزم الوضع. ولذلك فالجنوح إليه أفضل، ما دام يحمل طاقة تعبيرية لا تقل قيمة عن الكلام. يقول مثلاً في قصيدة «مذكرات الصوفي بشر الحافي:
فإذا ركّبت كلاما فوق كلامْ
من بينهما استولدت كلام
لرأيت الدنيا مولودا بشعا
وتمنيت الموت
أرجوك ...
الصمت ...
الصمت...
إن لغة الشعر المعاصر هي لغة صمت بامتياز، حيث تُنسَّق الكلمات بشكل منتظم يسمح للصمت أن يبرز من حين لآخر ليكسِّر رتابة الكلام الذي قد يؤدي إلى اختناق اللغة في حال الامتلاء الوافر للكلمات، إن كل كلام يحرك الصمت ويمنحه دفعة ملائمة للتبادل الخطابي، كما أن الصمت يحرك الكلام بمنحه زاوية خاصة، بحيث لا يمكن أن يتخلى أحدهما عن الآخر من غير أن يضيع ومن غير أن يكسر خفة اللغة.
وإن ما يميز توظيف الشاعر المعاصر للصمت في قصائده، حريته في اختيار لحظات البوح التي قد تطول أو تقصر حسب الدفقة الشعورية، واختياره للصمت كصيغة أخرى للتعبير بشكل لا يقل إبداعاً عن جنوحه إلى الكلام. وهو ما يمكن تسميته بلعبة البياض والسواد التي نعثر على تجلياتها عند عدد من الشعراء المعاصرين أمثال محمد الماغوط الذي يقول في مطلع قصيدة «حزن في ضوء القمر:
أيها الربيع المقبل من عينيها
أيها الكناري المسافر في ضوء القمر
خذني إليها
قصيدةَ غرام أو طعنةَ خنجر
فأنا متشرد وجريح
أحب المطر وأنين الأمواج البعيده
من أعماق النوم أستيقظ
لأفكرَ بركبة امرأة شهية رأيتها ذات يوم
لأعاقرَ الخمرة وأقرض الشعر
وظف الشاعر الصمت بشكل يختلف عن الاستعمال المتداول؛ فإذا كان قد تحرّر من قيود القصيدة التقليدية، فإن حريته صارت مغلفة بالصمت المعبر عن رؤيته الخلاقة، إذ تمنح القصيدة المعاصرة الشاعر حرية أكبر في التعبير باللغة والصمت معاً، حيث بدا له أن الإبانة عن المعنى تحتاج إلى الصمت وليس إلى اللغة كما نجده في مطلع قصيدة «الصمت والجناح» لصلاح عبد الصبور حين يقول:
الصمت راكد ركود ريح ميتة
حتى جنادب الحقول ساكتة
وقبة السماء باهتة
والأفق أسود وضيّقٌ بلا أبواب
منكفئ من حيثما التفتُّ كالسرداب
ونحن ممدودان في ظلال حائط قديم
مفترشان ظلنا
ملتحفان بالعذاب
لقد أصبح الصمت مع الشاعر صلاح عبد الصبور لغة يتصرَّف فيها مثلما يتصرَّف في لغة الكلام، إذ صار يقدِّم الكلام في قصائده مغلفاً بالصمت بشكل ينزاح به عن المعايير المتداولة في اللغة العادية. هذا بالإضافة إلى توظيف الصمت بشكل رمزي يخدم رؤية الشاعر ونظرته للعالم.
** **
الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها - جامعة عالية - كولكاتا - الهند
merajjnu@gmail.com