عبدالمحسن بن علي المطلق
وُلدت بعد بضع سنوات من زواج كثمرة لحبهما، وقد طال بهما مقدمي انتظارا، فطارا بي فرحا درجة أن تحولت دنيا والديّ لليالٍ ملاح وأنهار من أفراح لم تخفت رايات تلكم.. إلا بوفاة الأب، لتمسي بالذات في سماء والدتي لأتراح، وكنت يومئذ على مشارف عتباتي الأولى بالمدرسة.
لم تجد أمي بدّاً من تنحية تجربة الزواج.. وقد كثر الطرّاق، تعزّيا بذكريات قد اتخمت ذاكرتها لحبّها الوحيد، أقصد أبي، وكأن معاليقها به.. تتمتم /
يشوفون المطر فرحة
وأنا أشوف المطر ذكراك
ثم اكتفاءً بـ(..نور دنياها)، وزهرة عمرها آن الربيع، فهي (.. تلوّن) ألقابها لي حسب ومناسبتها (فصلها) السنوي..
بخاصة أن أمي من أسرة ذكورية، فقد كانت الأنثى الوحيدة على ستة ذكور، كما أن مقدمها كآخر عنقود.. (سكّر معقود).. كذا يقال، ما جعل وضعي عندها ذا صدى خاص، أو من هذه - الجزئية- زادت حفاوتها بي، وبالتالي قيمتي لديها فقد كانت كلماتها معي من الرقّة والحنان ما ألقى علي مسحة تشبّع، بالذات أنها شاعرية تتأثر بالمفردات، التي تنمو بإسباغها علي، حتى لا تكاد تملي علي طلبا إلا مشيّعا بجملة من تلكم، مثل: يا عيوني.. ياروحي.. يا... إلخ.. من تلكم التي تأخذ بمجامعي حين اسمعها رنيمها بتلك، درجة أني عنوة أتأخّر أحايين عن إجابتها إذا ما وافق نداءها عزف الفؤاد لأُقسّم خلف لطيف كلماتها وهي تترا على مسامعي ما يجعل من بسماتي تختلط ومدامعي.
عشت هذا الجو من باكر دُنياي حتى بلغت اليفاعة، أي من العمر الذي لا بدّ فيه من الجدّ والعزم على مبلغ الرشد، لكن أمي أبداً لم تتسنى!
إذ بقيت على منوالها معي، ونمطها هذا- أُصدقكم- ما جعلني رقيبة على نفسي من أن أخيّب فراستها، أو أثبّط مسعاها، فتذهب جهودها أدراج الإهمال فضلا عن التفريط.
لأن غنى المشاعر إن قدّره الطرف الآخر بلغ بالنفس ربوة لا
يُضار معها أي وهن، فحسبها عند العقلاء معارف هي مشارف أفهامهم (ذمم).
وعلى هذا- المنوال- عهدت حالي التي منذ بزغ لـ(وعيي) وجه دلال أمي، أعني وجهته ما حملت معه همّا لذلك، ولذلك قطعت عهد مع ذاتي أن أكون كما تبغِي هي منّي.. فالدلال رصيد يزيد إن كان المقابل يثمّن أثقاله، فماذا حياله تصنع؟
يوى أن لا تدع لأي هاجس مشين منفذ يؤذي الطرف المقابل
بل إنّه ليجعل من المرء رقيبا على ذاته.. من أن يماس فروسية من أسداك الثقة شيئا قد تتزيّل معه عن أُفقها، كما وأحمال ما استأمنك عليه تفيض.. حتى لو كنت خوّان، كذا يقال -مبالغةً-، فلا تفضّ ذاك الثمين.
وهذا (منحاي السوي بذاك السراط..) وحده من زاد قدري بعينها خصوصا وهي تعرف ذاتها من الضعف بمكان فكيف بها وهي الحنونة جبلّةً، فعدا أني وحيدتها، فزيادة أني -كما تقدم- نتيجة حب عميق.. وقد غابت شمس ذاك الحبيب، ولم تبق منه بعينيها سوى ذكريات معنوية.. الماديّ الشاخص من بين تلك -الذكريات- أنا
فهو كما تعبّر أحيانا أنه..
النور الضئيل.. التي تخاف انطفاءه
فأنى لي - بربكم- أن أُقدم ومن هذا السور القصير لأعلو مراكب من؟، إنها أمي أو.. لأقذف بحمم حبها لي أمام رغائبي إن لم تتحقق لذاك، فلا كنت ولن أكون تلك إذ هي ليست أُم فقط، بل راعية وافية مغذقة..
ولصفات أخرى أكّدتها لا أسمعها ولكن مما آراه في تعامل آراه لا أسطعّ أو أجرؤ حتى.. على اقتحام عقبة تلكم، تحديدا ما جعلت لي الخيار فيه، لأني لا أشاء تخييب فراستها، وزيادةً أنه لا يمكن لقلبها مطاوعتها إذا ما رامت ملامتي على تقصير بدا، أو قاربت لغتها من عتاب على مسقط ندّ عن جملة مسالكي، أبداً..
فأمي (صورة) أنيقة أُوتيت من وجوه السماحة واللطف كل شيء، حتى ليحسب من حولنا أنها «صديقة»..
إذا فليس خطابها معي وحده الراقي، بل أجدها كما أشرة في اتعاملها، ويكفي أنها أكثر ما تناديني بـ(نور حياتي)، ومما كررته علي بدون تشمي السؤال لها.. عن سبب ذا الوسم تحديدا، تتبسط معللة أنك نوّرتي حياتي، ثم تختم رافدةً:
لذلك سمّيتك «نور»