هذا عنوان كتاب لشهاب الدين أحمد بن علي الدلجي -نسبة إلى (دلجة) من صعيد مصر- المتوفى سنة 838هـ الموافق 1432م، طبعه خليل صادق في مطبعة الشعب المصرية عام 1322 ثم طبع سنة 1385 بمكتبة الأندلس في بغداد، وأخيراً حققه خميس حسن وصدر بمطبعة آفاق عام 2018م.
ومصطلح (الفلاكة) حققه المؤلف في الفصل الأول، فقال: «هذه اللفظة تلقيتها من أفاضل العجم، ويريدون بها بشهادة مواقع الاستقبال الرجل غير المحظوظ، المهمل في الناس لإملاقه وفقره». وقد علل سبب اختياره لهذا العنوان الغريب بدلاً من الفاقة والإملاق والفقر، بأن هذه الألفاظ الثلاثة ونحوها نص صريح في مدلولها، بخلاف لفظ الفلاكة والمفلوك؛ فإنه يتولد منهما بمعونة القرائن معان لائقة بالمقامات على كثرتها وتفاوتها.
وهو -كما يقول محقق الكتاب، وكما يبدو من مطالعته- «واحد من الأعمال القليلة في تراثنا العربي التي تلقي الضوء على الشرائح والفئات الدنيا أو المهمشة في المجتمع العربي والإسلامي، وتتناول قضايا وظواهر خلاف ما تُعنى به کتب التاريخ العام، التي تجعل همها غالباً تسليط الضوء على الأحداث من أعلى، وتتجه بعنايتها إلى القمم غاضة الطرف عما يدور في القاع».
وقد وضع المؤلف كتابه تعاطفا مع أمثاله من المفلوكين وقدمه لهم، كما يقول: «قد منحتكم يا معشر إخواني المفاليك كتابا بديع المثال، منسوجا على غير منوال، مخترعا من غير سابقة مثال، مسلاة وتمثلا وحكمة وعللا، تتخذونه مفاكهة وأمثالا، وتتصرفون به في ظنونكم ردا وإعمالا، وتنزعون به أيديكم من ربقة التقليد انتزاعا».
ويحذر المؤلف الفقراء من الاستسلام للفقر الواقع بهم، لمجرد كونه قدرا من أقدار الله سبحانه وتعالى، لأن ذلك يؤدي بالفقير ألا يحاول علاج الفقر الواقع عليه. وعرض تصورا للفهم الصحيح للقضاء والقدر بشأن الفقر، فخصص الفصل الثاني من كتابه لموضوع خلق الأعمال وما يتعلق به.
وذكر في الفصل الرابع الآفات التي تنشأ من الفلاكة وتقتضيها، وهي: ضيق العطن والنزق، والحقد، والحسد، وتمني زوال النعمة من غيره بسبب عدم قدرة المفلوك على الانتقام ممن نقموا عليه. واستشهد بقول ابن مقلة:
وإذا رأيت فتى بأعلى رتبة
في شامخ من عزه المترفعِ
قالت لي النفس العروف بقدرها
ما كان أولاني بهذا الموضع
ومن آفات الفلاكة الغيبة والطعن في أعراض الناس، وستر محاسن المفلوك، ومن تلك أيضا الآلام العقلية التي يصاب بها العلماء بسبب تحمل المشاق البدنية خوفا من التوبيخ والتقريع، أو الاتهام بما لم يقترفوه، كما حدث لابن فضلان حين وقع في بعض أسفاره على يده، فاستوجب علاجها قطعها، فكتب بذلك محضرا حتى لا يُتهم بالرديء.
ومنها الولع بالأسفار، طلبا لبلد أحسن حالا، أو رزق يساق إليه. ومن هنا نشأ عند المفلوكين تمني زوال الدول، لأن الدولة الحاضرة كالبلد الأول، والدولة المتمناة كالبلد الثاني، واستشهد بقول الشاعر:
إذا لم يكن للمرء في دولة امرئ
نصيب من الدنيا، تمنى زوالها
ومنها التعلق بالأسباب المستحيلة كالنجوم والكيمياء، والمطالب -أي الكنوز- والحرف الهوائية كالشعوذة.
وخصص الفصل الخامس ليثبت أن الفلاكة ألصق بأهل العلم وألزم لهم من غيرهم، لأسباب كثيرة، فالإمارة (الحكم) عنهم بمعزل، والتجارة مبنية على السفسفة والمماحلة، والصناعة والحرف يلزمها المهانة والتلوث برذائل الحيل الدنيوية، وأهل العلم لهم أنفة واستنكاف، فيقعدون عن الاكتساب، متعللين بالأماني الكاذبة، فيقعون في الفقر والإملاق».
ومن أسباب فلاكة العلماء توقعهم أن يعاملهم الناس بقدر ما يظنونهم يستحقونه بسبب علمهم، والناس لا يقيمون لمعارفهم وزنا. ومنها اعتيادهم القواعد الكلية وقياس الأشياء على أشباهها، فيصرفون النظر عن معظمها. ومنها فرضهم الاحتمالات البعيدة، ومنها انشغال بعضهم بعلوم معينة كالفلسفة والمنطق والتصوف والتجلي. ومنها أن الناس لا تُقبل إلا على ما تحتاج إليه، وليس القضاء والفتوى والتدريس أمورا ملحة لا يستغنون عنها.
ومن أهم فصول الكتاب الفصل السابع الذي حلل فيه بنظرة عالم الاقتصاد أسباب غلبة الفلاكة على الناس، حتى إن وفقوا إلى ميراث أو عمل وكسب، فيقول: «كلما تجدد للإنسان دخل جدد له صرفا، إما للمباهاة والترفع على أمثاله، أو إفراطا في الشهوات وانهماكا في اللذات، أو خوفا من سوء القالة والأحدوثة.. أو لأن الحالات المتجددة في دخله يلزمها تجدد أمور صرفه، فلا يزال الشخص مفلوكا».
وخصص الفصلين العاشر، والحادي عشر لتراجم بعض المفلوكين من العلماء وما آلت إليه أحوالهم، اكتفي بنماذج قليلة لضيق المساحة.
فمنهم القاضي عبدالوهاب بن علي بن نصر، الذي كاد يهلكه الجوع في بغداد، فلما خرج منها ودعه جمع من وجهائها، فقال لهم: لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كل غداة ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية. وأنشد:
سلام على بغداد في كل موطن
وحق ل ها مني سلام مضاعف
فوالله ما فارقتها عن قلى لها
وإني بشطي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت علي بأسرها
ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
ولما وصل مصر مات من أول أكلة تناولها. وزعموا أنه قال وهو بتقلب ونفسه تتصعد: لا إله إلا الله لما عشنا متنا.
أما أبو جعفر النحاس المصري النحوي، صاحب إعراب القرآن، فجلس على درج مقياس النيل، يقطع الشعر، فسمعه أحد العوام، فظن أنه يسحر النيل حتى لا يزيد فترتفع الأسعار، فدفعه للنهر، ولم يُعلم عنه بعد ذلك.
وصار لأعجمي دين على ذي الرئاستين محمد بن محمد ابن بيان، فأدركه في سطح الجامع فسفه عليه، وقبض لحيته، فألقى بنفسه من السطح فتهشم ومات بعد أيام.
ومن الذين أودى بهم سوء عملهم محمد ابن الزيات، أدخله المتوكل التنور الذي كان قد صنعه للتعذيب.
أما ابن الدهان، فقد غرقت كتبه، واختلط ماؤها بسيل مدبغة بجواره، وأشاروا عليه بتبخيرها، فأسرف في البخور حتى عمي.
ومن الذين قتلهم رفقة السوء ابن هانئ الأندلسي الشاعر، قتله أصحابه وهم يعربدون.
وجعل المؤلف الفصل الثاني عشر لنماذج من أشعار المفلوكين، وعلَّل لكثرة مفلوكيهم بأنهم مرة يسلون أنفسهم بترجيح الكمالات النفسانية على الكمالات المالية، ومرة يذكرون عوارضهم اللازمة بمقتضى الفلاكة، ويسوغون عنها أعذارا تنقيصا من قبح صورتها، ومرة يسابقون إلى ذكر نقائصهم ويجعلونها رقة أدبية أو نكتة شعرية، قبل أن يذكرها غيرهم عنهم.
وذكر حوادث مأساوية لشعراء تسببت فيها ألسنتهم، كما حدث لصالح بن عبدالقدوس لما حاكمه المهدي بتهمة الزندقة، فأطلق سراحه، ولما تولى استدعاه، وسأله ألست القائل:
والشيخ لا يترك أخلاقه
حتى يوارى في ثرى رمسه؟
قال: بلى. قال: فإنك لا تتركها، وقتله.
وختم المؤلف كتابه بالفصل الأخير وعنوانه (وصايا يستضاء بها في ظلمات الفلاكة).
** **
- سعد عبد الله الغريبي