اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
ومهما تنوعت تخصصات المهنة واتسعت مجالاتها، فلابد من توحيدها في قالب مهني، يجمع الجزئيات تحت السقف الكلي للمهنة الذي يصوغها بالشكل الاحترافي الذي يجعل فروع المهنة تخدم أصلها وجزئياتها تندمج في محيط كلياتها في بيئة احترافية، تتخذ من دروس التاريخ وتجاربه منطلقاً تنطلق منه عبر الحاضر إلى المستقبل.
والمعرفة الاحترافية ذات ميادين واسعة من العلوم التخصصية والمعارف الثقافية التي تتطلب من المحترف إمعان النظر وإعمال الفكر فيما يدرسه من دراسات نظرية، ويمارسه من ممارسات عملية لكي تتوافر له الكفاءة المهنية والأهلية الاحترافية على النحو الذي تتضح من خلاله طبيعة المهنة ومناقبها وشكل الحرفة العادية ومثالبها على ضوء احترافات المحترف واهتماماته المعنوية وانحرافات غير المحترف واتجاهاته المادية.
والمسؤولية هي الركيزة الثانية بالنسبة للاحتراف والمتحلي بها ينجز عمله ويمارس مهنته بأمانة وإخلاص، ويحرص على الإجادة والإتقان، نائياً بنفسه عن الانسياق وراء الرغبات الشخصية والمصالح الذاتية التي تخل بعمله وتطعن في احترافه، وعندما يشغل المحترف منصباً يُمنح بموجبه سلطة من نوع ما، فإنه أكثر قدرة على كبح جماح السلطة ووضعها في مكانها الصحيح بفضل تحلِّيه بالمسؤولية، وفهمه لقيود وحدود السلطة التي أعطته حق فرض الإرادة، انطلاقاً من الشعور بالمسؤولية من جهة، وخضوع السلطة لهذه المسؤولية من جهة ثانية، وحسن استخدام الصلاحية الممنوحة له من جهة ثالثة.
وبقدر ما تقدمه المهنة من خدمة للمجتمع يكون المنتمي إليها أكثر حاجة إلى الاحتراف، وفي الوقت نفسه تكبر مسؤوليته تبعاً لذلك، كما هو الحال بالنسبة للمهنة العسكرية ومهنة الطب ومهنة القضاء ومهنة التعليم، وغيرها من المهن التي تلعب دوراً في خدمة المجتمع، وتساعده على القيام بوظيفة من وظائفه، نظراً لما تمليه هذه الحرف على المحترف من مسؤولية اجتماعية ذات أهداف معنوية وعائدات أدبية مع عدم الانشغال بالأهداف والعائدات المادية.
والانتماء إلى المهنة يمثل ركيزة من ركائز الاحتراف، وهو مبايعة النفس لهذه المهنة والإخلاص نحوها، نتيجة لوجود شعور مشترك من الاتحاد والاندماج يجمع بين المنتمين إليها من خلال ما يربط بينهم من روابط المهنة وصلات الحرفة، وما تولَّد عن ذلك من كفاءة احترافية ترجع إلى الوعي الجماعي والحس المتبادل وعلاقات العمل التي يترتب عليها قيام عضوية احترافية وتحمل مسؤولية اجتماعية ومعرفة مهنية، يتم على ضوئها إيجاد الخط الفاصل اجتماعياً ومهنياً بين المنتمي المحترف الذي يتصف بعلو الهمة ويتطلع إلى القمة، وبين ذلك المنتسب الدخيل على المهنة والمنحرف عن المهمة.
ومن آفات الاحتراف ومنغصاته انحراف المؤسسة عن مهمتها وانصرافها عن مهنتها بسبب الانشغال بمهام ثانوية واهتمامات دونية تفتح الباب على مصراعيه لأولئك الذين يقولون ولا يفعلون ويهتمون بمصالحهم الخاصة على حساب المصلحة العامة، علاوة على أن المدعي الهاوي والدخيل الغاوي يحل محل أهل الاحتراف ودعاة الإنصاف، الأمر الذي يساعد على نمو البطالة المقنعة والفساد بشقيه الإداري والمالي بشكل تنحو معه المؤسسة منحى ينأى بها عن احتراف مهنتها وإنجاز مهمتها.
وترتيباً على ذلك فإن المؤسسة ذات الطبيعة الاحترافية والمهنة الوطنية، إن لم تضع المنتمين إليها على الطريق الصحيح نحو احتراف المهنة تحولت بيئتها من بيئة عاملة إلى بيئة عاطلة تكثر فيها الأقوال على حساب الأفعال، ويصبح فيها الإرجاف بديلاً عن الاحتراف، ويكون لسان مقالها وواقع حالها مثل: المنبت الذي لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.
وقد كان من حسن الطالع في هذا الزمن الذي يخيم ظلام الفساد فيه على دول كثيرة، ما تشهده المملكة من وجود الدليل القاطع على النور الساطع، حيث إن القيادة الحكيمة للمملكة على ضوء ما تتصف به من النظر الثاقب والفكر الصائب، بادرت إلى القيام بإصلاحات وطنية رائدة، وخطت خطوات تطويرية واعدة يضرب بها المثل ويقتدى بها من قبل الآخرين، كما حازت على قصب السبق بالنسبة لكثير من الدول فيما يتعلق بمحاربة الفساد وتحديد الحد الفاصل بين البياض والسواد عبر التأكيد على الأمور المشروعة وتلك الممنوعة في الكثير من المجالات المهنية على مختلف المستويات القيادية والإدارية وغيرها من الجهات المسؤولة عن تصنيف المهن وتنظيمها وكيفية تنفيذها، ويشمل ذلك الموازنة والمزاوجة بين الكيف والكم، وما تعنيه هذه المعادلة من الدعوة الصريحة إلى مواكبة العصر والخوض في آفاق الفضاء الرقمي وأعماق العالم التقني مع شحذ الهمم نحو الالتزام بمقومات الاحتراف من خلال التخصصات الاحترافية والمهارات المهنية التي تخدم رؤية 2030 وتنسجم مع الإصلاحات الشاملة في الحاضر والمستقبل بعيداً عن أنصاف الحلول والبقاء في معترك الواقع المشلول والمستقبل المجهول، وقد قال الشاعر:
السباق السباق قولا وفعلا
حذر النفس حسرة المسبوقِ