د. عيد بن مسعود الجهني
في الحادي والعشرين من شهر أكتوبر 2015 كتبتُ مقالاً في هذه المساحة اخترت له عنوانًا (هل العالم على أبواب حرب كونية ثالثة؟)، وما قلته في تلك الفترة أن الحروب الطاحنة قد تقع لأبسط الأسباب وتترك صفحات سوداء مشوهة في تاريخ البشرية، فالحرب العالمية الأولى كان سببها الرئيس اغتيال ولي عهد النمسا على يد طالب صربي، فاشتعلت الحرب. والحرب الكونية الثانية جاءت بعد الأزمة الاقتصادية العالمية 1929 أعقبها هجوم هتلر صاحب كتاب (كفاحي) على بولندا رغبة في التوسع فشبت نار تلك الحرب المدمرة. ومع انتهاء فاشيتها عاش العالم حروبًا منها الحرب الباردة، وحرب فيتنام، وحروب 1956، 1967، 1973 واحتلال أفغانستان 1979، ثم احتلاله من قبل أمريكا، وحرب إيران والعراق استمرت لـ (8) سنوات، واحتلال الكويت 1990 وتحريرها، واحتلال العراق 2003 وغيرها من الحروب.
وما تشهده اليوم الساحة الدولية من صراع روسي- أمريكي - أوربي يؤكد أن عالم اليوم مقدم على نذير حرب لا تبقي ولا تذر، فطبولها أصبحت تقرع منذ أشهر وبطلها الدول الكبرى التي فازت بالحرب الكونية الأولى (1914 - 1918) والفاشية الثانية (1939 - 1942) لينطبق عليهم القول إن أصدقاء الأمس أصبحوا اليوم أعداء، وكل ذلك بسبب التسابق نحو النفوذ الدولي.
الاتحاد السوفييتي السابق أُعلن وفاته بانهيار جدار برلين 1989 وتوحيد ألمانيا، وفي عام 1991 كتبت شهادة الوفاة وتناثرت الدول التي كانت تدور في فلكه لتصبح دولاً مستقلة ومنها دول شرق أوربا التي احتضنها الناتو بسرعة البرق، وكان الروس أيامها شهداء على ذلك الاندماج تاركين سيدتهم روسيا غير آسفين.
بقي الحال على ما هو عليه عقودًا ثلاث من الانطواء الروسي ولملمة الصفوف، وبدأ العنصر الروسي بأول صيد سمين استهله عام 2008 بانتزاع جزءين مهمين (ابخازيا وأوسيتيا) من الجارة جورجيا غير آبه بالتحذيرات الأمريكية والأوربية التي تدعم جورجيا، وكان ينقصها المصداقية، فلا زالت أجزاء من جورجيا بقبضة الرجل القوي بوتن.
ليس هذا فحسب إذ لم يكتف الرجل بما اقتطعه من جورجيا بل يمم صوب أوكرانيا واحتل (بالقوة) جزيرة القرم، ولم يفعل الغرب سوى التنديد الشديد وفرض عقوبات على الاتحاد الروسي لم تأت أكلها، وبذلك حققت روسيا نصرًا على أوكرانيا بين عامي 2014 و2015، ومما زاد الطين بلة أنها فرضت اتفاقيات (بالقوة) أيضًا توقف إطلاق النار ليست بنودها في مصلحة أوكرانيا.
وتزامن ذلك مع ذهاب أوكرانيا إلى الاتحاد الأوربي عام 2014 حيث وقعت اتفاقًا للشراكة مع الاتحاد الأوربي، وهذا أمر اعتبرته روسيا مهددًا لأمنها القومي، لكن الأوكرانيين بتعدادهم البالغ (40) مليون نسمة حلمهم الذي يراودهم أن يصبحوا من حاملي جوازات السفر الأوربية، وهذا الحلم تقف روسيا بكل قوتها ضده، ولم يوافقها (الناتو) بذلك وسندهم في ذلك أن سيادة أوكرانيا لشعبها يقرر ما يرونه طبقًا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وشروط الاتحاد الأوربي في قبول انضمام أية دولة إليه.
كل هذه المحددات تختلط الأوراق والأحداث فيها، اليوم القوة الروسية البالغ عددها (150) ألف جندي جزء من (1.2) مليون ومئتي ألف جندي بمواجهة أوكرانيا، يدعمها الآلاف من الجنود والمعدات الروسية في بلاروسيا، وبذا تبرز طبول حرب كونية ثالثة بدأت تقرع معلنة عن نفسها.
قلنا إن روسيا احتلت شبه جزيرة القرم عام 2014 في عملية عسكرية خاطفة، وقبلها استولت على أجزاء من جورجيا، وهذا لم تشهده أوربا منذ الحرب العالمية الثانية، ولم يفعل الغرب سوى فرض عقوبات غير مجدية، فلم تلحق بالاقتصاد الروسي ضررًا بليغًا بمفهوم علم الاقتصاد والتبادل التجاري.
وهذا فتح شهية الرئيس الروسي، وها هو يحضِّر لغزو أوكرانيا، التي سبق أن جردها من سلاحها النووي طبقًا لاتفاق 1994، وإن كان لن يستطيع أن يحتلها بل قد يشطرها إلى نصفين فهي دولة واسعة بمساحتها وسكانها.
وهذا إذا حدث فإن الصراع بين القوى العظمى على أوكرانيا قد يعيد رسم الخارطة الأوربية، وروسيا تسعى لهذا لشعورها بأنها تخسر نفوذها السياسي في الجارة أوكرانيا عامًا بعد آخر، وهي ترى انحياز ذلك البلد سريعًا نحو الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي، وأمريكا والأوربيون داعمون لمسيرة أوكرانيا هذا بكل قوة.
ولذا فإن الروس يرون أن جارتهم توثق علاقاتها بشكل أسرع مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، وهذا في نظر بوتن أمر ليس في مصلحة بلاده، ويبدو أنه عقد العزم على إعادة ضبط الأدوار لتصبح في مصلحة بلاده، لكن يبدو أن الطموحات شيء والحقيقة على الأرض أمر آخر.
من هنا تولدت فكرة التهديد (بالقوة) فالأحداث العسكرية الروسية، أي متتبع للإستراتيجية العسكرية يدرك أن هذا العدد الكبير من الحشد العسكري الروسي يتجاوز حدوده العسكرية من كونه تدريبات (مثلاً) إلى غزو عسكري واسع بعد أن جاءت القوات من المقاطعات العسكرية البعيدة بآلاف الكيلومترات لتصبح أمام الحدود الأوكرانية، هذا يوضح بجلاء توزيع الوحدات العسكرية من أجل هدف واحد محتمل هو الهجوم والاحتلال العسكري لدولة ذات سيادة.
وإذا كان أحد رؤساء الدول الغربية الذي عقد اجتماعًا مع الرئيس الروسي هو المستشار الألماني شولتس، فإن ألمانيا مثلها مثل الاتحاد الأوربي تسعى لحل ودي يوقف زحف حرب قد تشمل أوربا كلها، بل وتشل خط أنابيب (نوراستريم 2) بين روسيا وألمانيا الذي اكتمل مشروعه ولم يبدأ تشغيله لنقل الغاز الروسي إلى أوربا، وأي حرب ضد أوكرانيا قد تقتل هذا المشروع العملاق.
وإذا كان السيد بوتن يطالب الغرب بضمان عدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو، وهو أحد أسباب حشد قواته الضخم على الحدود الأوكرانية، فإن الولايات المتحدة تعتبر هي الدولة صاحبة الكلمة العليا في هذا الصراع الذي قد يخرج من رحمه حرب كونية جديدة.
لماذا لأن الدولتين العظميين روسيا وأمريكا يملكان (القوة) الرادعة التي تحد القوة، ولذا فإن الرئيس الأمريكي السيد بايدن بيده مفاتيح حل الصراع مع زميله السيد بوتن، ومن هنا فهو (بايدن) يطمئن الأوربيين بأن بلاده مستعدة لتلبية طلباتهم من الغاز، فبلاده تسيطر على مخزون كبير من الغاز الصخري، وكأنه هنا يذكر الأوربيين بأن بلاده زودتهم بـ (90) في المئة من احتياجاتهم النفطية خلال الحرب الكونية الثانية.
وعلى الجانب الآخر الإدارة الأمريكية قدمت وتقدم السلاح لأوكرانيا وبولندا وغيرهما من دول الجوار الروسي ناهيك عن التدريبات العسكرية، وإذا ما حدثت حرب روسية أوكرانية فإنها ستكون طويلة المدى باهظة التكاليف، وقد تتحول إلى حرب استنزاف تكلف الدولتين خسائر بشرية واقتصادية فادحة.
وبالنظر للإدارة الأمريكية تعتبر هذه الحرب إن حدثت بعيدة عن حدودها، وقد ترى أن في نشوبها فائدة فهي قد تلحق الضرر الأكبر في الجانب الروسي من النواحي السياسية والاقتصادية.
والخافي أعظم، فمن يعلم أن دهاليز البيت الأبيض تذهب بعيدًا، فبعد جروحها في أفغانستان والعراق، تريد أن يقع الدب الروسي في فخ حروب جديدة، بعد أن (تورط) في سوريا وله امتداد في أفريقيا لتختل قواعده السياسية وسمعته وجنده كما حدث للغول الأمريكي، كل ذلك وارد.
ولذا فإن الإدارة الأمريكية (وحلف الناتو) أعلنوا جهارًا نهارًا أن غزو روسيا لأوكرانيا ستكون عواقبه قاسية جدًا ويتصدون في ذلك العقوبات (الصلبة) ومنها قطع سبل الاتصالات البرية والجوية والبحرية، وأشكال عديدة من الحواجز الجمركية، ويمتد إلى الحظر والمقاطعة ومنع الاستيراد والتصدير، إضافة إلى عقوبات مالية وتجميد حسابات في الخارج وتمتد حتى إلى حظر تصدير الأدوية والمواد الغذائية إلى الدولة المستهدفة..الخ.
وإذا كانت الإدارة الأمريكية التي خرجت من أفغانستان والعراق بعد أن كانت خسائرها المادية بلغت (4) ترليونات دولار، هي (أمريكا) التي سمحت لقيصر روسيا ومعه إيران تمزيق بلاد الشام واحتلاله وتشييد قواعد عسكرية على أرضها وبمباركة أمريكية ولم تقدم سوى التنديدات والتهديدات، ومنها أن اعتبار السيد أوباما استعمال أسلحة دمار شامل ضد المواطنين خط أحمر في سوريا، واستعمل النظام السلاح الكيماوي مرات عدة، وقد رأينا جعجعة ولم نر طحنًا.
فهل ستقف الإدارة الأمريكية (والناتو) صامدين ضد روسيا المتحفزة لغزو أوكرانيا لمنع نشوب حرب مدمرة في القارة الأوربية، في ظل إصرار روسيا على مطالبها لتضمن نفوذها في أوكرانيا ليسجل التاريخ جرحًا مفتوحًا لا يمكن علاجه؟
بل سيزداد سوءًا قبل أن ينفض الغبار عن اندماله.
ثم هل ستشهد القارة العجوز حربًا كونية ثالثة.. بعد أن احتضنت حربين عالميتين حصدتا أعمار أكثر من 60 مليون إنسان.
التاريخ هو الذي سيسجل ذلك.
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة