د. محمد بن إبراهيم الملحم
في مقالتي السابقة استعرضت عددا من الأمثلة لعلماء انتقدوا تلقي العلم أو التعلم من خلال المدرسة وهو ما يمكن أن نطلق عليه «التمدرس» Schooling ولذلك لم يتوافق بعضهم معها فخرج منها ليدرس ذاتيا في المنزل، وهذا غالبا بمساعدة الأبوين، كما أن بعضهم الآخر تحملها على مضض ولكنهم أشاروا في مذكراتهم إلى أنه ليست المدرسة التي صنعت تفوقهم وأوصلتهم إلى ما أنجزوه للبشرية، بل كان التعلم الذاتي، والواقع إن هذا حق يشهد له التاريخ قبل عبارات هؤلاء العظماء ونظرتهم الخاصة، ففكرة المدرسة ظهرت إلى الوجود في القرن التاسع عشر في بروسيا وكانت موجودة بشكل محدود في العدد بل كانت بهدف تعليم الشرائع الدينية المسيحية في المقام الأول، وكان يسجل فيها أبناء الذوات فقط، لكنها انتشرت بعد ذلك بشكل واسع لعامة الناس (خاصة في أمريكا) في بداية القرن العشرين، ولكن قبل ذلك كله بمئات الأعوام شهد التاريخ كيف أن طائفة كبيرة من علماء البشرية خدموها بعلمهم وتفوقهم دون أن يكونوا قد التحقوا بمدارس نظامية كهذه. ففي تراثنا العربي كانت حلقات العلم هي وسيلة طلب العلم ولم يكن المتعلم مسجلا رسميا يحصى عليه الغياب وتعمل له اختبارات في وقت محدد، بل متى ما رأى أن أتقن كل ما درسه لدى هذا المعلم (الشيخ أو العالم صاحب الحلقة) سواء كان ذلك في علوم الشريعة أو اللغة أو الحساب أو الفلك فإنه يتقدم لمعلمه طالبا منه أن يختبره ويعطيه «إجازة» لتكون هي وسيلته لثقة الناس في علمه فيجلس لتدريسهم وتعليمهم بنفس الطريقة، كذلك كان علماء عصر النهضة الأوروبية يتلقون العلم من خلال القراءة والاطلاع في المقام الأول والتدارس مع بعضهم البعض ولم تكن المدرسة هي الوسيلة لصنع هؤلاء العلماء.
المدرسة ليست شرا في ذاتها، ولكن مشكلتها في الطريقة التي صيغت بها هذه المؤسسة لتكون متسمة بدرجة عالية من الانضباط وقائمة على النظم المحكمة والتعليمات الصارمة، لا من أجل السلوك فقط (فهذا مقبول) ولكن أيضا من أجل التعلم، فما يقوله المعلم محسوب، وما يقوله الطالب تحت المجهر ويجب أن تنصاع إجابته للمقرر ولا شيء غير المقرر (حتى لو كان صوابا في بعض الأحيان)، وتلقي العلم يخضع لأوقات محددة، وهناك تحديات يجب اجتيازها: الاختبارات والواجبات، فكل هذه المظاهر نمّطت عملية التعلم وجعلتها في إطار «إنتاجي» يهدف إلى تخريج «أو إنتاج» عدد أو كم معين من الأفراد يحملون كما معينا من المعرفة والمهارات معروف ومحسوب بدقة، وما يحملونه من شهادات مكتوبة وموقعة هو ما يدل على صحة هذا الادعاء.
كل ذلك أدى إلى أنه في كثير من الأحيان تجد المدرسة مكانا مملا للطالب والمعلم، فلسان حال الطالب يقول المعلم يمارس علي سيطرة وتحكما تاما بحركتي ونشاطي فلا أتحرك من طاولتي إلا بإذنه ولا أتحدث إلا بإذنه، بل ربما لو قلت شيئا يخالف ما يقوله فسوف يغضب مني، كما أن المعلم يشعر بالبؤس ولا ينظر لمهنته بتقدير كبير، وأكثر مكان تجد فيه طاقة سلبية وتبرم هو غرفة المعلمين، المعلم نفسه كان طالبا في المدرسة اثني عشر عاما من عمره وغاب عنها أربع سنوات فقط في الجامعة ليعود إليها مرة أخرى، هذا الوضع يجعله مصابا بالإحباط في اللا وعي، وربما في الوعي أيضا، ليس لأن التدريس مهنة سوداء كئيبة ولكن لأن الطريقة الرسمية التي صيغت بها في جو التمدرس والأسلوب التحكمي الذي تتسم به جعلها كذلك، بينما التدريس في صورته الفطرية الطبيعية، مهمة راقية وذات قيمة عالية تنعكس إيجابيا على نفسية المعلم لما فيها من العطاء الذي هو أرقى قيمة يمارسها الإنسان وممارستها بهذه الطريقة ينتج «العلماء» وليس مجرد تروس إنتاج في مكائن الاقتصاد قد تكون صدئة أحيانا وقد تكون أسنانها واهية لا تدير العجلة جيدا. وللحديث بقية.