د.سهام صالح العبودي
«ثمَّ دخلت السنة التاسعة والسبعون بعد المائة والألف. وفيها توفِّي الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان بن ربيعة بن إبراهيم بن ربيعة بن مانع»*.
بهذا الحدث افتتح المؤرِّخ ابن بشر حوادث العام 1179هـ في كتابه (عنوان المجد في تاريخ نجد)، رحل الإمام محمد بن سعود بعد أن خلَّد اسمه أوَّل مؤسِّس للدولة السعوديَّة، وبعد أن صنع بدءًا مجيدًا صار علامةً من علامات التاريخ؛ فكان حقيقًا على هذه القيادة النابهة أن تجعل ذلك البدء الفريد حدثًا سنويًّا يُرى فيه التاريخ في مرايا الحاضر، وتُقرأ في سطوره عبرٌ من تلك المعابر التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم.
هذا الوصول منذ ذلك البدء البعيد يخبرنا عن سمتٍ تكتنزه عقول الرجال وقلوبهم: أن يؤمنوا، ثمَّ يأملوا، ثمَّ يعملوا، فكان أن منحته التوفيقات الإلهيَّة مقامه الذي يليق بقلب رجل شجاع، فإذا ما بلغ الأمر زمانه المقدَّر، ارتحل الإرث إلى عهدة اللاحقين، والآن وبعد قرون ثلاثة صار جليًّا أنَّ أهل العهدة كانوا على العهد، وأنَّ تاريخ هذه الأرض كان بين يدي لاحقين مؤمنين، وآملين، وعاملين كما كان أسلافهم، ولولا ذلك ما انتهى الأمر إلى دولة سعوديَّة ثالثة احتفلت منذ وقت قريب بيومها الوطني الحادي والتسعين، دولة أكملت قرنًا من وجودها المستند إلى دولتين سابقتين، وجذور عريقة راسخة تتمدَّد فروعها بجسارة وسؤدد وطموح.
ينفي هذا الامتداد فكرة النشوء الطارئ، أو الجذور القريبة السهلة الانتزاع، لقد ترك الإمام ميراثًا حصينًا من امتزاج الحقِّ بالقوة، والإيمان بالعمل، واليقين بالسعي، مبادئ راسخة يقولها لسان التاريخ دون أن يُستنطق، وتُشاهَد شواهدها دون أن يشير إليها بنان.
حين يُصنع المجد على عيني الطموحين يأخذ مكانته بقوَّة، ويضع علامته دون أن تمحوها عوادي الدهر وتقلُّباته الطارئة، فما استُبقي منه ليُستذكر ليس مجرَّد حكايات مؤسطرة، وتهويمات تُشبع الخيال غير ماتَّةٍ إلى الواقع بصلة؛ بل كان كيانًا يُرى، وامتدادًا لم يَتوخَّ طامحه النجاة، ولم يكن في حسبان مجده الاكتفاء بقليل من الأرض، ومحدود من صفحات التاريخ، بل حمل روحه فوق النصال إلى حيث قادتْه آماله؛ ليقول: إنَّ القلب الجبان المتحصِّن لا يقتحم حصونًا، ولا يصنع مجدًا.
في احتفال (التأسيس) يغمرنا ضوءٌ آسرٌ لا يُعشي عن فكرة أنَّ ما بين أيدينا هو حاضر مستولَد من ماضٍ لم يجبُن صانعوه، ولم يبخَل بادؤوه، بل أفاضوا علينا وطنًا حين نلتفت إلى جذوره نرى أنفسَنا فيه قبل أن نولد، وقبل أن يصير هذا الزمان - بفضلهم - زماننا، وندرك حينها أنَّنا في ظلال بنية جذريَّة لدولة معاصرة تجمع الأزمنة في حدود أرض واحدة!
أن نحتفل يعني أن ندرك بوعيٍ وطنيٍّ أنَّ بلوغ (عَنَان السماء) ما كان ليكون لولا أنْ أرسى رجلٌ طموحٌ سُلَّمة الصعود الأولى؛ لأنَّ يقينًا يسكنه بأنَّ خلفه سلسلة من رجال طامحين، كان هذا (العَنَان) يُرى منذ زمن بعيد، منذ الثاني والعشرين من فبراير عام 1727م، وكان حلمًا يدافع عن المستقبل بما يَملكُه حامله من قوَّة وإيمان.
إنَّ وجوه الرجال لا تُرى في المرايا أو الصور؛ بل في الأحلام التي ننام فنراها تصبِّح علينا؛ كي نكون بعدها لا محتفلين وحسب، بل ساعين كي يصحو هذا الوطن تصبِّحه كلُّ رؤاه وهي تُرى وتُلمسُ وتُحكى ما بقي الزمان!
** **
* عنوان المجد في تاريخ نجد، الشيخ عثمان بن بشر، تح: عبد الرحمن آل الشيخ، دارة الملك عبد العزيز، ط4، 1402هـ. 1/ 99.