محمد سليمان العنقري
لا يزال العالم يعيش تداعيات تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991م، فالأزمة الحالية التي انتقلت إلى مرحلة تصعيد خطرة بعد اندلاع الحرب بين وريثته روسيا مع جارتها أوكرانيا أحد أهم الدول التي انفصلت عنه وذات المساحة الكبرى، بنحو 600 ألف كم والتي تعد بخصوبة أرضها سلة غذاء أوروبا، فهي ثاني دولة مصدرة للحبوب في العالم، لكن ما أكسبها الأهمية في الجغرافيا السياسية هو موقعها الاستراتيجي وطول حدودها مع روسيا مما مثل بحسب وجهة نظر حكومة موسكو خطراً على أمنها القومي فيما لو انضمت أوكرانيا لحلف الناتو، لأن انتشار قواعد الحلف سيجعل مدن روسيا في مرمى صواريخهم بمدة لا تزيد على أربع دقائق حسب ما صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بخلاف القدرات الكبيرة لكشف ورصد ما يحدث من تحركات عسكرية وغيرها في الأراضي الروسية بحكم القرب من حدودها في حال أسست قواعد للحلف في أوكرانيا بحسب الرواية الروسية.
لكن إذا نظر إلى الأزمة ببعد استراتيجي أوسع فإن روسيا التي يرى كثير من المحللين والسياسيين الغربيين أنها تحاول إعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي بمفهوم جديد يقوم على دولة روسيا العظمى وعلاقتها الحضارية بالدول المجاورة لها، فإن ملف الأزمة مع أوكرانيا يرونه مقدمة لما بعده من فرض شروط لتحقيق أمنها القومي ومن ثم الانتقال لبناء تكتل تقوده روسيا مع الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي وانفصلت عنه يقوم على مصالح أمنية واقتصادية، خصوصا أن لروسيا وجوداً أصبح قوياً في المياه الدافئة في البحر المتوسط وكذلك لها دور في ليبيا بخلاف وجودها في دول إفريقية عديدة، فبعد ثلاثة عقود من العمل على احتواء تداعيات تفكك الاتحاد السوفيتي أصبح لروسيا قدرات تراها مناسبة للعودة بقوة للمشهد الدولي، لكن عند النظر للأوضاع الدولية منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتشكل القوى الدولية، حيث أصبحت أمريكا تقود العالم الغربي والرأسمالي عموماً والاتحاد السوفيتي يقود الفكر الاشتراكي والشيوعية العالمية إلى أن تفكك قبل 31 عاماً لتبدأ مرحلة القطب الواحد الذي تمثل في أمريكا حتى بدأت أوروبا عبر الدول المنضوية في اتحادها بتأسيس قوة اقتصادية وسياسية تمهد لمرحلة تكون هي طرف أو قطب دولي وكانت أهم الخطوات إطلاق العملة الموحدة اليورو 1999م رغم أن التواريخ التي وضعت لتوحيد عملة أعضاء الاتحاد كان أغلبها يدور حول عام 2010 إلا أن تسريع الخطوات بقيادة فرنسا زمن الرئيس شيراك وألمانيا في زمن المستشار هيلموت كول كان يهدف إلى بناء قوة أوروبية مترابطة قبل أن تنفرد تماماً أمريكا بالمشهد الدولي وكذلك قبل أن تصبح الصين قوة اقتصادية وسياسية دولية رئيسة وهو ما وصلت له عملياً في زمننا الحالي، إذ باتت ثاني اقتصاد عالمي.
لكن هل تغيرت أدوار الهيئات الدولية من الأمم المتحدة ومجلس الأمن والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، كما تغيرت موازين القوى في العالم الذي أصبح بحاجة إلى تغيير في أدوار تلك الهيئات وقوانينها ومسؤولياتها بما يتناسب مع الجغرافيا والاقتصاد والتوزيع السكاني في العالم، فالاقتصادات الناشئة باتت اليوم هي المحرك للاقتصاد العالمي وجل الطلب على السلع والخدمات يأتي منها في مختلف القارات وهي من يلعب الدور الأبرز في معدلات النمو الاقتصادي في العالم وجل الصناعات أصبحت تنتقل لها وسكان تلك الدول يشكلون غالبية سكان العالم لكن عند النظر لمجلس الأمن فإن دول عديدة في قارة أسيا أو قارة إفريقيا وأمريكا اللاتينية لا يوجد من يمثلها في مجلس الأمن بمقاعد دائمة كحال الدول الخمس دائمة العضوية وذات الأمر ينطبق على المؤسسات المالية الدولية، فما زال المتحكم بها قوى محدودة تتركز في أوروبا وأمريكا أو في منظمة التجارة العالمية التي تتخطاها بعض الدول بحروب تجارية، كما حدث بين أمريكا والصين فقد زاد عدد دول العالم في السنوات الثلاثين الماضية وتغيرت الموازين الاقتصادية كثيراً إلا أن العالم ما زال يعيش حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فمصالح الشعوب تبدلت وأصبحت بحاجة لهيئات تقود المجتمع الدولي بمراعاة لمصالح الجميع.
الاقتصاد العالمي يواجه خطراً كبيراً بمثل هذه النزاعات السياسية التي قد تتحول لحروب كما هو الحال بين روسيا وأوكرانيا اللتين اشتعلت الحرب بينهما فلا أحد يعرف أين ستقف تداعياتها فمن الممكن أن تتحول إلى حرب عالمية ثالثة إذا خرجت عن السيطرة، فهذه الحرب بين روسيا وأوكرانيا تبدو مقدمة للنظر في إعادة تشكيل النظام العالمي الجديد بمرحلة أكثر تسارعاً وعمقاً ووصولاً لقلب المشكلة التي تتمثل بأن العالم تغير، لكن لم يواكب ذلك تغيير في المنظومات التي يفترض أنها تحقق المساواة والعدالة بين الدول وتحافظ على السلم الدولي وتحمي اقتصادات الدول من أي مؤثرات نتيجة الخلل الذي يربك العالم عندما تقع أزمات بين الكبار كالحروب التجارية أو النزاعات السياسية التي تنعكس على الاقتصاد العالمي، كما يحدث حالياً، فالعالم يحتاج بعد جائحة كورونا إلى تكاتف وتعاون لتخفيف تداعياتها خصوصا التضخم الذي يزداد بتسارع كبير وهذه الأزمة ستكون سبباً في ارتفاع معدلاته بنسب عالية وستؤثر في الدول الفقيرة وقد تزعزع استقرارها.