عبدالرحمن بن أحمد الجعفري
انضمَّ إلى رَكْب الراحلين عن دنيانا أخي وصديقي عبدالعزيز بن محمَّد المنقور «أبو محمَّد»؛ ذلك الرجل الودود المخلِص الذي ربطتني به علاقة طويلة من الأخوَّة والمحبَّة والودِّ العميق، وذكريات عزيزة ممتدَّة، وقبل ذلك كلِّه محبَّة الوطن والغيرة عليه، ومحبَّة العِلْم وطلابه وخدمتهم، ومحبة الأمة العربية قاطبةً..
عندما وقفتُ بالأمس على حافَّة قبره مودِّعاً، جالتْ في مخيِّلتي صُوَرٌ من الذكريات والمواقف التي جمعتْني مع هذا الإنسان الفريد في فِكْره وإنسانيته وتفرُّد شخصيته بميزاتٍ قلَّما اجتمعت لإنسان، وبرزت الصورة الأولى التي ترجع إلى القرن الماضي، وعلى وجه التحديد صيف عام 1956م، أمام فندق طانيوس عالية في لبنان في المقهى الذي أمام الفندق، حيث كنتُ وعمِّي محمَّد وابنه نهمُّ بالدخول إلى مقهى الفندق، وكان راحلنا الغالي في طريقه للخروج منه، وعمِّي كان على معرفةٍ بأسرة المنقور الكريمة التي قَطَنَ بعضُ أفرادها الأحساء، وتمَّ التعارف بيننا بعد تداوُل حديث قصير بينه وبين عمِّي، ودَعانا أبو محمَّد الكريم المتواضع لتناوُل الشاي معه ومواصَلة الحديث.
وبقامته الممشوقة، وهندامه الجميل، وابتسامته المشرِقة الجاذبة المرحِّبة، يشعُر مَنْ يلتقيه بأنه يعرفه مِنْ زمن طويل. كنتُ إذ ذاك تابعاً لعمِّي في ذلك اللقاء لأنه الأكبر، وفارق السن بيني وبينهما جعلني أُبدي احترامي وتقديري والاكتفاء بسماع ما يدور من حديث، إذ كنتُ في السادسة عشرة من العمر تقريباً، وكان فقيدُنا موظَّفاً في سكَّة الحديد وفي العشرينيات مِنْ عمره، كان ذلك أوَّل لقاء لي بأبي محمَّد، الذي ربطتني به -فيما بعدُ- صداقةٌ عزيزة دامت أكثر من خمسين عاماً.
التقينا بعد سنوات في المكتب الثقافي السعودي في عام 1962م في مدينة نيويورك، عندما كنتُ مِنْ ضِمْن مبتَعَثي المجموعة الرابعة للبعثات السعودية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكان -رحمه الله- في بداية عمله في المكتب الثقافي، عرَّفتُه بنفسي وبلقائنا في لبنان، فرحَّبَ بي ترحيباً حاراً وألحَّ في إبداء رغبته في تقديم أي مساعَدة أحتاجها. ذلك هو أبو محمَّد المادُّ يدَه بالمساعَدة لكلِّ محتاج.
كان -رحمه الله- إدارياً حصيفاً، يستغلُّ كلَّ الموارد المتاحة له لأداء مهامِّه بأقلِّ تكلفة. بعد أن تقاعَدَ الأستاذ الفاضل الدكتور عمر أبو خضرة من رئاسة المكتب الثقافي السعودي في نيويورك، وتسلُّم فقيدنا لذلك المنصب وزيادة عدد المبتَعَثين، وجدَ أنَّ أفضل وسيلة للتواصُل مع المبتَعَثين هي القيام بزيارات ميدانية يلتقي فيها بالطلاب ومكاتب الإشراف في الجامعات، ويقف بنفسه على أحوالهم. كان يختار أحدَ الطلاب القدامى المتقدِّمين في دراستهم ليكونوا حلقة الوَصْل بينه وبين بقيَّة الطلاب في تلك المدينة أو الجامعة، وكنتُ واحداً من أولئك الطلاب المختارين عنده. ذلك هو أبو محمَّد الإداري المحنَّك.
أكملتُ دراسة برنامج اللغة الإنجليزية في جامعة تكساس، واخترتُ جامعة واشنطن في شمال غربي الولايات المتَّحدة في مدينة سياتل الجميلة، وكان إذا رغب في زيارة الطلاب في تلك المدينة أو مدينة بورتلاند في ولاية أوريغون يتَّصل بي، استقبله في المطار وأرتِّب إقامته ولقاءه مع زملائي في تلك الجامعة، بعد أنْ وقَّع المكتب الثقافي السعودي اتفاقاً مع جامعة ولاية أوريغون في بورتلاند مشابهاً لذلك الذي كان مع جامعة تكساس، لأجل برامج تعليم اللغة الإنجليزية للمبتَعَثين، كان -رحمه الله- يختار سياتل مدينة وصول، ومنها إلى بورتلاند، ويفضِّل السفر بالسيارة من سياتل إلى بورتلاند للاستمتاع بالمناظر الجميلة بين المدينتَيْن، وقد صَحِبْتُه مرَّتين في تلك الزيارات، واستمعتُ إلى نصائحه وتوجيهاته الحكيمة للطلاب، ولا أنسى ما كان يردِّده: «أنتم سفراء بلادكم، لذا عليكم الاجتهاد في دراستكم، وتمثيل بلادكم أحسن تمثيل». ذلك أبو محمَّد الملهِم والمحفِّز، الذي كان الوطن عنده أولوية.
لم تكن تلك الزيارات بروتوكولية، بل كانت لحلِّ إشكال قانوني وقعَ فيه طالب، أو لحادث مروري أُصيبَ فيه طالب إصابة كبيرة، وأذكُر أنه جاء إلى سياتل بعد حادث أليم تسبَّبَ في وفاة أحد الزملاء الدارسين في مدينة قريبة من سياتل، فأشرفَ بنفسه على إنهاء جميع الإجراءات لذلك الحَدَث الأليم. ذلك هو أبو محمَّد الإنسان.
في طريق عودتي في صيف عام 1968م بعد التخرُّج وحصولي على شهادة البكالوريوس، توقَّفتُ في نيويورك للسلام عليه -رحمه الله- وطلب مساعدتِه في حصول زوجتي الأمريكية الجنسية على تأشيرة دخول للمملكة، فما كان منه إلا أن رحَّب بي وبارك لي بزواجي ودَعاني للغداء، وأخذ جواز سفر زوجتي وقال: «غداً تمرُّ بالمكتب بعد الظهر وسوف تكون التأشيرة على الجواز»، وفعلاً وجدتُ ما وَعَدَني به قد تحقَّق، شكرتُه على مساعدته وغادَرْنا إلى المملكة وقد غَمَرَنا بكَرَمه وتشجيعه ومساعَدته. ذلك أبو محمَّد الداعم الكريم، المهتم بتيسير أمور الناس.
بعد عودتي للدراسات العُليا، وكالعادة مررتُ بالمكتب التعليمي في نيويورك، وكانت علاقتنا قد توطَّدتْ، فسألني أين حصلتُ على قبول للدراسة، فقلت له: ستكون دراسة الماجستير في جامعة شرق ولاية تكساس في مدينة كوميرس، وبعدها سوف أختار جامعة أخرى بالتشاوُر معك بإذن الله، فقال: أحتاجك في أوكلاهوما أو في إنديانا، تساءلتُ: لماذا؟ قال: الوزارة -يعني وزارة المعارف- عندها خطة تدريب لمجموعات من المدرِّسين ومديري المدارس والإداريين وترغب في إرسالهم، ونحن نتفاوض مع جامعة أوكلاهوما وإنديانا. ولمَّا غادرتُ نيويورك إلى مقرِّ الدراسة، لم يقطَع التواصُل معي والسؤال عن تقدُّمي في دراستي. ذلك أبو محمَّد الوفي الوَدُود، الحريص على الصالح العام.
وعندما التحقتُ ببرنامج الدراسات العُليا في جامعة أوكلاهوما، بدأتْ وفود الأساتذة والإداريين مبتَعَثي وزارة المعارف يتوافدون، واختار أبو محمَّد أنْ يقضي وقتاً للإشراف بنفسه على بدء البرامج التدريبية، وكنتُ في تلك الفترة مساعده ومستشاره، ولم يودِّعنا ويسافر إلى مقرِّ عمله إلا بعد أن اطمأنَّ على سَيْر العمل في البرامج. لمستُ منه في تلك الفترة الرغبة في نَقْل المكتب الثقافي من نيويورك إلى مدينة أخرى، وكان يتساءل عن مدى ملاءَمة مدينة هيوستن في ولاية تكساس التي بها مكاتب لشركة «أرامكو»، وفعلاً نُقل مكتب الملحَق إلى تلك المدينة في عام 1975م.
عدتُ لجامعة الملك فهد أستاذاً، وعاد أبو محمَّد مديراً عاماً للبنك الزراعي، ولم ينقطع تواصُلنا، وأثناء فترة عضويتي في مجلس الشورى، كنتُ أجدُه يهتمُّ بتفاصيل الموضوعات المعروضة على المجلس ويسأل دوماً: ماذا عملتم وتعملون لخدمة الناس؟
ثم تقاعَدْنا أنا وهو، فكانت إقامتي في الدمَّام وإقامته في الرياض، إنْ زرتُ الرياض زرتُه وإنْ زار الدمَّام زارَني، أمَّا تواصُلُنا الهاتفي فكان لا ينقطع، كان يحبُّ زيارة الدمَّام حيث كانت له فيها ذكريات وزَمَالات، وكان يسكُن عند ابن عمِّه الأستاذ عبدالمحسن بن حمد المنقور الملحَق التعليمي السابق في بيروت، الرجل الكريم المتواضع المُحِبّ لعمل الخير، كريم النفس والعطاء، رحمه الله، وكذلك من أصدقائه الأستاذ عبد المحسن بشاوري -رحمه الله- الذي كان من زملاء العمل في سكَّة الحديد. ذلك أبو محمَّد الوفيُّ لأهله ولأصدقائه.
رحمكَ الله يا أبا محمَّد، كنتَ آيةً في الإخلاص لوطنك وأبناء وطنك، كنتَ إنساناً -بكلِّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى- في تعامُلك مع مَنْ أشرفتَ على تعليمهم وأسبغتَ عليهم رعايتك وكنتَ تجود عليهم بكريم النُّصْح والتوجيه، وقلَّما تجتمع الآراء على شخصٍ خدمَ الوطن في منصب إداري مثل ما اجتمعتْ عليكَ يا أبا محمَّد بالثناء والتقدير، رحلتَ عنا ولم يرحل ذِكْرُك الحَسَن، عزائي أولاً لزوجتك الفاضلة وأبنائك وأقاربك وزملائك وكلِّ مَنْ قدَّمتَ له النُّصْح والمشورة، وفوق ذلك عزائي للوطن الذي أحببتَهُ وخدمتَهُ بصِدْقٍ وأمانة. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.