د.فوزية أبو خالد
عداوتي الذاتية للحرب
نادراً ما أعود للكتابة في نفس الموضوع بمقالتين متتاليتين أو أكثر إلا في موضوعات محدودة ومحددة مثل حرب الخليج الثانية التي تغشم فيها نظام صدام على جارة العراق التاريخية محاولا احتلال الكويت بالقوة العسكرية وكأنها ليست دولة وشعبا وبلدا مستقلا، بما كاد يجر به المنطقة لمصير خطير جدا لولا الموقف السعودي التفاوضي القوي الذي استطاع العمل على حمل القوى الأجنبية لتعود لبلدانها بعد أن اضطر للتحالف معها لكف العدوان الصادمي عن الكويت وأي من أطماعه الأبعد، وقبلها ولسنوات بعدها لم أكن أتوانى عن الكتابة المتتالية في موضوع الصراع العربي وتداعياته على المجتمع العربي وعلى استمرار الاستعمار الصهيوني الاستيطاني لأرض عربية اسمها فلسطين بعد تفريغها بأبشع أشكال التصفية العسكرية من أهلها، وطبعا هناك ما كتبتُ فيه بلا كلل في تفنيد الموقف الأمريكي الرسمي الاتهامي من وطني بعد الحادي عشر من سبتمبر، بجانب الكتابات المتلاحقة التي سطرتها في الاحتلال الأمريكي للعراق بعد السقوط المستحق لنظام صدام حسين 2003، ولم أستطع إلا الكتابة لأكثر من مرة في الجرائم الهولاكية البواح التي ارتكبت في حق الشعب السوري بيد نظامه الديكتاتوري المنحط وبيد أعوانه من الميليشيات الإيرانية البشعة الغاشمة والقصف السجادي الروسي للمدن والقرى السورية. وبالمثل كانت لي أكثر من مقال عن انتهاكات الحوثي للحد الجنوبي من بلادنا، وتخريب قواه المدعومة من النظام الإيراني الثيولوجي الطائفي لأرض اليمن وقتل أطفالها وتجويع وتشتيت شعبها.
وهذا يعني أن لا شيء يحملني على الكتابة في نفس الموضوع المرة تلو الأخرى وإن أدى ذلك لتلوي أصابعي وقلبي من الألم إلا ذلك الألم والغضب الذي يثيره في حبري وروحي الاعتداء على حرمة النفس الإنسانية وعلى حرمة العمران البشري وحرمة الحق والعدل. ولهذا وجدتني أزيح وأؤجل كل المواضيع التي كنت أفكر في الكتابة عنها لأنني لن أستطيع وإن أردت تجنب العودة للكتابة عن تلك الحرب الموجعة المؤسفة التي بجرة سلاح لجيش جرار شنها تلميذ المخابرات الستاليني وخبير استباحة دماء الأبرياء رئيس روسيا الحالي على الأرض الأوكرانية يوم الخميس.
2
صدمتي الشخصية من الحرب
لن أقول إن خبر الحرب لم يفاجئني رغم أن التهديد بها والاستعداد العسكري لها والخطاب السياسي المسوق لها على الشعب الروسي وعلى الإعلام العالمي كان جاريا على قدم وساق منذ فترة غير وجيزة وقد حمي وطيسه في الأسبوع الأخير بشكل لافت، إلا أنني لا أظن أن إنسانا سويا لن يصعقه خبر اندلاع حرب وإن كانت الأجواء مشحونة بمقدماتها.
لم أكن بطبيعة الحال أعول على أمريكا لا قبل الهجوم الروسي ولا بعده في نصرة الشعب الأوكراني ولا حتى على الاتحاد الأوروبي وبريطانيا نصرة تمنع وقوع الحرب أو تصعب قرارها على القيصر الروسي, وقد رأيتُ كغيري ورأى العالم بأم عينه كيف تنفض أمريكا وصنوها الغربي يدها من حروب وصراعات حلفائها بل حتى من الحروب التي توقدها بنفسها في تجربة تلو أخرى من فيتنام لأفغانستان، باستثناء تضامنها السرمدي مع دولة العدو الصهيوني. غير أن ذلك لا يعني ألا نقاوم ولو على مستوى الخيال الحسي بأن المجتمع الدولي غابة كما لا يعني أن نستسلم لقتل تلك الفكرة النبيلة بوجود ضمير عالمي
لم أكن أجهل أيضا أن ليس لدى الرئيس الروسي من الضوابط الديموقراطية داخل بلده ما يمنعه من اتخاذ قرار الحرب بشكل شبه منفرد، وإن خلو بلاده من ميزان المحاسبة الديموقراطية الدقيقة يسهل عليه بيع قرار الحرب على شعبه بذريعة الأمن الروسي من ناحية وبالعمل على إيقاظ عملاق الحس القومي باستعادة المكانة القطبية لروسيا أمام قطب القوة الأمريكي من ناحية أخرى. إلا أن علمي بذلك وعلمي بما في ترويج النقطة الأخيرة من طاقة للعب ليس فقط بعواطف الشعب الروسي، بل بعواطف العالم الذي أنهكه ارتهان العالم للقطب الأمريكي الأوحد لم يكن يجعلني استوعب وجود احتمال حقيقي بتجرؤ روسيا على شن حرب على أوكرانيا. فهل كنتُ غرة وساذجة إلى هذا الحد أم أنني كنتُ ككل عشاق السلام الحالمين أحاول تجنب إشارات المحاق البارزة تمسكا بخيط الأمل الرهيف لعل صوت العقل يعلو على صوت الحرب ولعل لغة حوار دبلوماسي رشيد تغلب لغة الصراع والاقتتال.
3
مواجهة وحشية الحرب بريشة السلام
إلا أن انفجار الحرب الفادح لم ولن يمنع من تفجر مضاداتها الحيوية بكل ما في الأوطان من شهوة الحياة الكريمة وبكل ما أودع الله في الإنسان من حب الحياة.
وبرغم هذه البديهية المبدأية التي بها ينتصر السلام على الحرب أنى طالت وإن اختل ميزان القوى بين وحشية الحرب وريشة السلام، فقد تعددت قراءة الموقف من حرب روسيا على أوكرانيا وتأرجحت بين الإدانة والحياد والتأييد بشكل يتجاوز السؤال السياسي للسؤال الفلسفي الأبعد في حال العالم اليوم من القرن الواحد والعشرين.
فإذا كانت العقلانية تفترض إدانة هذه الحرب بإجماع مطلق، فإن هناك من المواقف ما جاء فاجعا ومخجلا أي كانت ذرائعية المصلحة لاتخاذه، ومنها تلك التي تراوحت من المواقف الانتهازية التي أيدت الحرب ليس حبا في روسيا بل كرها لأمريكا غاضة البصر عن التضحية بالشعب الأوكراني في سبيل شرعة الانتقام وعلى أمل أن تشكل الصين وروسيا جبهة قطبية ضد أمريكا خاصة والغرب عامة. وكأنه لا يكفي تحويل أوكرانيا لحصان طروادة للصراع الروسي الصيني/ الأمريكي الغربي لتصبح أيضا ساحة للمزيدات
بالإضافة لذلك هناك المواقف التي ذهبت للوم الضحية فصارت تنحي باللائمة على أوكرانيا والرئيس الأوكراني بأنهم جروا الحرب على أنفسهم بخروجهم على بيت الطاعة الروسي القديم وأنه ارتكبوا خطيئة تستحق أن تكون عقوبتها الحرب، كتلك المواقف التي لم يند جبينها عن تأييد الحرب كالموقف الإسرائيلي وموقف النظام السوري لما بينها وبين النظام الروسي بقيادة بوتين من مشترك الانتهاكات.
وإذا كان تباين مواقف ممثلي دول العالم في مجلس الأمن للأمم المتحدة قد عكس عينة من تلك المواقف بما فيها مواقف من امتنعوا عن الإدانة أو التأييد للحرب لحساباتهم الخاصة التي تعبر هي نفسها عن مواقف وإن بدت غير معلنة، فإن الإعلام الرقمي على وجه التحديد وخاصة المعبر عن صوت الإنسان العادي قد كشف بصورة أشد شفافية وأكثر جرأة عن مواقف الإدانة للحرب باعتبارها نقيض الحياة ومن منطلقات مبدأية في حق الشعب الأوكراني في بناء وطن مستقل لا يرتهن لمصالح وإرادات لا قوى الشرق ولا قوى الغرب التي يريد كل منها أن يحارب الآخر على أرضه وبدماء شعبه. وإذا كانت حرب روسيا على أوكرانيا قد كشفت عن مخاوف أوروبية وعالمية عميقة من عودة هتلر متخفيا في شخص بوتين على نفس الخطى النازية وعلى نفس الخط الجغرافي الأوروبي ولكن معكوسا بما عبر عنه الغلاف المدعى لمجلة التايم بصورة بوتين بفم وشارب هتلر، فإن هذه الحرب قد كشفت عن روح بطولية عند الشعب الأوكراني في الدفاع عن وطنه بما يعيد الاعتبار لكلمة الحرية التي وإن استخفت بها الأنظمة فإنها تبقى الكلمة الأغلى في قاموس الأوطان التي تريد أن تكون أوطانا حرة.