د. تنيضب الفايدي
لنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة قال تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، فعلى المسلم أن يعرف تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه، سواء ما يتعلق في حياته أو في تعاملاته مع الناس.
فالخلق هو السجية، والطبع، والمروءة والدين. وإنه حالة راسخة في النفس، وتظهر أثناء التعامل مع الآخرين، وهذا المظهر يسمى السلوك، فالسلوك دليل الخلق ورمز له، أما السلوك الحسن فيدل على خلق حسن والسلوك السيئ يدل على خلق قبيح.
والخلق الحسن له فضائل عديدة، من أهمها أنه أعظم روابط الإيمان وأعلى درجاته، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً».
ومنها أن الخلق الحسن من أعظم القربات وأجل العطايا والهبات ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن فإن الله ليبغض الفاحش البذيء».
كما أن الخلق الحسن هو الغاية لبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
والخلق العظيم الذي مدح الله به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الدين كله، والخلق الحسن جزءٌ منه، كما قال ابن تيمية - رحمه الله -. قال ابن القيم - رحمه الله -: «حسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر، العفة، الشجاعة والعدل. ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة».
والخلق الحسن يشمل: العلم، والحلم، والأناة، والحكمة، والجود والكرم، والعفو، والصفح، والرفق، واللين، والصبر والعزيمة، والثبات، والعدل، والإنصاف، والصدق والإخلاص، والبر، والوفاء، والإيثار، والرحمة، والتواضع، والزهد والكياسة والنشاط، والسماحة، والمروءة، والشجاعة، والأمانة، وحفظ السر، والورع، واليقين، والتوكل.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يراعي الطبيعة البشرية في تعامل الناس، فالله سبحانه وتعالى خلق في الناس صفات يتميز بها عن الآخرين، حيث نرى أن في البعض توجد الشجاعة والقوة، والآخر يتصف بالجود والكرم والإيثار، وهناك شخص آخر يتميز بالتحمل والصبر والحلم والأناة، وهكذا. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يظهر اهتمامه بكل فرد على حدة بناء على تلك الصفات، فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «لو رأيتَني وأنا أستمع لقراءتك البارحة. لقد أوتيتَ مزمارًا من مزامير آل دواد». متفق عليه. كما قد قدَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاعريةَ حسانَ بن ثابت فيمدحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: «اهجُهم ورُوحُ القُدُس معك».
وعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسية أبي ذر التي تكره الظلم، وتأخذ نفسها بالشدة والزهد، فوجَّهه إلى أن يكون نصيرًا للمحتاجين ثابتًا على مبدأ الحق، وإن خالفه الناس؛ ولأنه فَهِم تلك النفسية العازفة عن الدنيا قال له عندما طلب الإمارة يوماً: «يا رسول الله، ألا تَستعملني في أي منصب»، قال: فضرب بيده على منْكبي، ثم قال: «يا أبا ذرٍّ، إنك ضعيفٌ، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخَذها بحقِّها، وأدَّى الذي عليه فيها».
أبو سفيان - رضي الله عنه - كان يحب الفخر فتعامل معه مع هذا المبدأ حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: «من دخَل دار أبي سفيان فهو آمِنٌ، ومن أغلَق بابه فهو آمِن، ومن دخل المسجد فهو آمن». متفق عليه
ففي تخصيص بيت أبي سفيان شيء يشبع ما تتطلع إليه نفس أبي سفيان، وفي هذا تثبيت له على الإسلام وتقوية لإيمانه، وكان هذا الأسلوب النبوي الكريم عاملاً على امتصاص الحقد من قلب أبي سفيان وبرهن له أن المكانة التي كانت له عند قريش لن تنتقص شيئاً في الإسلام إن هو أخلص له وبذل في سبيله، وهذا منهج نبوي كريم على العلماء والدعاة إلى الله أن يستوعبوه ويعملوا به في تعاملهم مع الناس.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول: كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه بُرْدٌ نَجْراني غليظ الحاشية، فأدرَكه أعرابي، فجبَذه بردائه جبْذةً شديدةً، حتى نظرتُ إلى صفحة عاتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أثَّرت بها حاشيةُ البُرد من شدَّة جبْذته، ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ضحك، ثمَّ أمر له بعطاءٍ. رواه البخاري.
إن هذا الأعرابيَّ لا يعجبه المنطق الدقيق، ولا الطبع الرفيق، قدْرَ ما يعجبه عطاءٌ يملأ جيبوبه، ويُسكن مطامعه.
وفي يوم أقبَل رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله مالاً، فأعطاه النبي الكريم قطيعًا من غنم بين جبلين، فرجع الرجل إلى قومه، فقال: «يا قومِ، أسلموا؛ فإنَّ محمدًا يعطي عطاءَ مَن لا يخاف الفاقة». رواه مسلم.
كما يعامل كلَّ أحد يلقاه بمهارات؛ من احتفاء، وتفاعل، وبشاشة؛ حتى يشعر ذلك الشخص أنه أحب الناس إليه، وبالتالي يكون هو أيضًا أحبَّ الناس إليهم؛ لأنه أشعرهم بمحبته.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستخدم أسلوباً عند النصيحة يشجع المخاطَب للقبول فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمر وهو يريد أن يدعوه إلى قيام الليل: «نعم العبدُ عبدُالله بن عمر لو كان يقوم من الليل»، قال سالم بن عبدالله بن عمر: فكان عبدالله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً. رواه البخاري.
الشك والظنّ من الطبيعة البشرية حيث يدخل الشيطان من هذا المنفذ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يراعي تلك الطبيعة البشرية، فلا يترك مجالاً لدخول الشيطان حيث تذكر السيدة صفية - رضي الله عنها - أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلاً تزوره وهو معتكف في المسجد فحدَّثته، قالت: ثم قمت فقام معي وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمرَّ رجلان من الأنصار، فلما رأَيَا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أسرعَا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «على رسلِكما، إنها صفيَّة بنت حيي»، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: «إنَّ الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيتُ أن يقذف في قلوبكما شيئًا أو قال: شرًّا». رواه البخاري.
كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعنّف ولا يغضب، بل يفهم عذر الصحابة - رضي الله عنهم - ففي رواية عن ابن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: «لما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر، وكان ببعض الطريق، قال من آخر الليل: من رجل يحفظ علينا الفجر لعلنا ننام؟ فقال بلال: أنا يا رسول الله أحفظ لك، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل الناس فناموا، وقام بلال يصلي، فصلى ما شاء الله أن يصلي ثم استند إلى بعيره، واستقبل الفجر يرمقه، فغلبته عينه فنام، فلم يوقظهم إلا مس الشمس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول أصحابه هب من نومه، فقال: ماذا صنعت بنا يا بلال! فقال: يا رسول الله، أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، قال: صدقت. ثم اقتاد رسول الله غير كثير، ثم أناخ فتوضأ وتوضأ الناس، ثم أمر بلالا فأقام الصلاة، فصلى بالناس، فلما سلم أقبل على الناس فقال: إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها، فإن الله عز وجل يقول: (وأقم الصلاة لذكري)».
وهكذا رأينا الحبيب يتفهَّم تعب بلال، ويقدِّر حالته، فلا يغضب ولا يُعنِّف!