د. خالد عبدالله الخميس
زبيدة بنت جعفر سيدة نبيلة؛ جدها خليفة (أبو جعفر المنصور) وزوجها خليفة (هارون الرشيد) وابنها خليفة (الأمين)، زبيدة سيدة فاقت في حكمتها ورجاحة عقلها عقول الحكماء من الرجال والنساء.
شخصياً، ولحد قريب لم أكن أعرف عنها إلا القليل حتى سنحت لي الفرصة بالاشتراك في قافلة درب زبيدة والتي هدفت لقطع جزء من درب زبيدة بطول 370 كم مما يلي منطقة حائل وذلك لمدة أسبوعين مشياً على الأقدام، وكان دافعي من الاشتراك فقط ينحصر في ممارسة رياضة الهايكنق والمشي في الطبيعة بتنوعها البيئي من جبال ووديان وصخور ورمال وصحارٍ ومرتفعات ومنخفضات.
ولقد بدأ برنامج القافلة في يوم 4 يناير وانتهى في يوم 18 يناير من عام 2022 . وأذكر أنه خلال الأيام الأولى من المشي في الطبيعة لم أكن ألقي بالاً لاسم زبيدة حتى تردد اسمها وتكاثرت رؤية مشاريعها على الطريق، وشيئاً فشيئاً تحول هدفنا من مجرد مشي في الطبيعة إلى مشي تأملي واستشعار لقوافل الحجيج وهي تسير في هذا الدرب طوال 1200 سنة خلت، تخيلنا أصوات الحجيج وهي تلهج بالدعاء والتكبير والتلبية، تصحبهم جمالهم وخيولهم، وتكرس ارتبطنا بالطريق ارتباطاً روحياً وانشغلت أذهاننا باسم زبيدة منشئة الطريق، فما أن نسير 30 أو 50 كم إلا ونجد منشأة زبيدية ما بين بئر أو بركة أو قلعة أو متعشي، مع تزويد الطريق بما يسمى بالأميال وهي علامات مرتفعة تدل على وجه الطريق كي لا يتوه المسافر، وهكذا سرنا على طريق زبيدة بهذه المشاعر التأملية، وكأننا نصحب جمعاً غفيراً من الحجاج ما بين راجل وراكب، لقد توحدنا وذبنا مع الطريق وأصبحنا والطريق وزبيدة والحجيج لحمة واحدة.
كنا نتساءل؛ كيف فكرت زبيدة في هذا المشروع التنموي الإصلاحي، وكيف تكونت تلك الرؤية السامية والرسالة العظيمة التي تجلت في خدمة الحجاج المسافرين بين العراق ومكة، هذه الرؤية المجيدة تنم عن عقل متفرد وعبقرية زبيدية حكيمة، إذ جرت العادة أن طموح زوجات الملوك يتمركز في أعمال خيرية اعتيادية كتوزيع الصدقات على الفقراء أو بناء المساجد أو حفر الآبار، لكن أن يمتد الهدف الخيري لهدف راقٍ وجبار ومشروع إنساني شامل يتمثل في تأهيل طريق يمتد من الكوفة إلى مكة بطول 1400 كم ومزود بكل ما يلزم المسافر، فهذا شيء لا يخطر ببال حكماء المصلحين ناهيك عن غيرهم.
حقيقة، الطريق بمحطاته الخدمية مذهل، ولكن مما لفت نظري أكثر مشروعان؛ المشروع الأول هو بناء مدينة وحامية أمنية تتمثل في مركز لحماية الطريق أشبه ما تكون بمركز لدوريات أمن الطرق، ومقر هذه الحامية هي مدينة فيد، وهي مدينة تتوسط المسافة بين الكوفة والطائف ويسكن تلك المدينة قوة من الجند يرأسها أمير يسمى بوالي الطريق، حيث يتولى الإشراف على أمن وسلامة المسافرين والحجاج، وقد بنيت مدينة فيد بشكل متكامل حيث المنازل والقلاع والحصون ومقرات للجند. ولا زالت آثار المدينة باقية حتى الآن.
المشروع الثاني الذي لفت نظري، هو مشروع ترصيف وتعبيد أرض صبخة تقع بالقرب من مدينة الأجفر، إذ كانت طبيعة تلك الأرض تمثل عائقًا لمسيرة درب القوافل مما يؤدي ببعض الجمال بالغوص في تلك الأرض والعجز عن التحرك، ولقد عالجت زبيدة هذه المساحة من الأرض الصبخة من خلال بناء طريق معبد يشبه لحد كبير بناء الطرق الحديثة، فتم ردم الأرض الصبخة بصخور وحجارة وطويها بطبقة شبيه بالإسمنت وتم تمهيد الطريق بشكل بديع، ولقد مشينا في هذا الطريق كما لو كنا نمشي في طريق معبد بالأزفلت بطول 5 كم وبعرض 80 مترًا.
ويجدر بالذكر، أن مشروع درب زبيدة مشروع يشتمل على مشاريع عدة فريدة من نوعها، وتطلب بناؤه تكاليف باهظة ومرّ بعدد من العقبات، لكن زبيدة بدعمها السخي ذلل تلك العقبات.
ومن المواقف عن شخصية زبيدة التي تذكر عنها أثناء تنفيذ الدرب، أنه لما وشا الوشاة لها بأن بعض الدعم المادي يتم نهبه من قبل المنفذين للمشروع، إلا أن هذا لم يوهن عزمها، إذ كانت تكرر عليهم بقولها: ربي سيحاسب إي شخص أؤتمن على أمانة.
سرى المشروع واكتمل بناؤه بنجاح وبكل تفاصيله حيثما خطط وأنجز في وقته، وبالفعل سار على هذا الطريق ملايين الحجيج وكانت صاحبة المشروع زبيدة لها حظ من دعوات الحجيج.
هذه زبيدة وهذا مشروعها الجبار الذي لم يكن مجرد مشروع اعتيادي، فدرب زبيدة قبل أن يكون درب للقواقل فهو درب محبة وعشق يوصل من سار على دربه إلى مكة والبيت الحرام، وكأن قصيدة غازي القصيبي التي مطلعها «درب من العشق لا درب من الحجر» نسجت لوصف طريق زبيدة وعاشقيه من الحجاج القادمين من العراق وفارس وخرسان والهند.
درب زبيدة هو مشروع حكيم ونتاج للحكمة الزبيدية. إن امرأة بهذا السمو وهذا الرقي وهذه الهمة لابد وأن تكون مختلفة عن الآخرين في صفات شتى، ولعلي أذكر موقفاً صعباً بطولياً أو حكمة زبيدية أخرى، يستحيل على العقلاء أن يتبنوه.
لما دنت منية هارون أوصى لابنها الأمين بالخلافة ولأخية غير الشقيق المأمون بولاية العهد، طمع الأمين بعد توليه الخلافة أن يسند ولاية العهد لأبنه بدلاً من أخيه المأمون، ولما علم المأمون بذلك، قام بتجهيز جيش للخروج على الأمين، وحصل ما حصل من اقتتال بينهما وانتهى بقتل الأمين وتوليه المأمون بديلاً عنه، الآن في ظل هذه الفتنة، وفي ظل قتل الأمين ابن زبيدة، كان التساؤل يدور حول موقف الأم زبيدة من قتل ابنها وموقفها من صعود المأمون كخليفة على حساب دم ابنها، وكان المتوقع أن تطلب زبيدة القصاص لابنها وأن تشحن النفوس للثأر لابنها، إلا إنها الحكمة الزبيدية كانت حاضرة، إذ استطاعت بحكمتها وتعقلها معالجة المشكلة بشكل يفوق التوقعات، فذهبت للمأمون في قصره وقالت كلامًا أبكى الحاضرين مفاده «رغم أنك قتلت ابني الأمين إلا أني أبايعك على الخلافة، كي لا يتزعزع الأمن ويستقر حكم بني العباس»، بكى المأمون من تلك الكلمات ومن ذلك الموقف وقبل رأسها وأكرمها، وهكذا أغلقت زبيدة باباً للفتنة والاقتتال بين أطراف المسلمين بالحكمة الزبيدية التي اقتضت حقن دماء المسلمين وترسيخ وحدة وهيبة الدولة الإسلامية، فأول الأولويات في الحكمة الزبيدة هو التحام الدولة تحت قيادة الصف الواحد؛ قمة الحنكة والتعقل الذي لا يضاهيه شيء. فالحكمة الزبيدية، استطاعت إخماد استمرار نار الفتنة بين الأمين والمأمون وبين داخل صف الجند وعمدت للتركيز على حفظ أركان الدولة الإسلامية وحفظ أمنها واستقرارها، وما شهده حكم المأمون من استتباب الأمن يرجع فيه إلى حد كبير إلى دور الحكمة الزبيدية وقطع دابر الفتنة والتفرق.
بأي عقل تفكرين يا زبيدة، وبأي روح طيبة تبذلين، ساهمتِ في استقرار الدولة وتوحيد صفوف المسلمين، وذللتي طريق الحج للمسلمين في عصر كان كل أمير وغني يهتم بملكه وممتلكاته.
إن الحكمة الزبيدية كما تدل على علو قيم زبيدة ورفعة مبادئها ورسالتها، فهي تدل على أن أسلوب حياتها مليئة بالكثير من المواقف الحكيمة والقصص الرشيدة والتي وللأسف لم يروه الرواة. رحمك الله، يا زبيدة، وأسكنك الفردوس الأعلى من الجنة.