كان الشعراء - الذين اتصفوا برهافة الحسّ وسلامة الذوق- ينظمون على سليقتهم الإيقاعية في التفاعيل التي تلقوها بالسماع ممن سبقهم إلى هذا الفن الضارب بجذوره في العصر الجاهلي، وكانوا يدركون أوزان الشعر وما يجوز فيه من تصرّف الشاعر المضطر وما لا يجوز، ويعرفون الصحيح من السقيم المختلّ، وسيلتهم إلى ذلك الأذن الموسيقية المرهفة، من غير تقعيد ولا ضوابط مكتوبة أو مروية لوزن الشعر، فلم يكن في زمانهم قد ظهر علم العروض الذي استنبطه الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي من أشعارهم ودوّر له الدوائر الخمس، واستخرج منها التفاعيل، ونصب الأوتاد ومدّ الأسباب، وكشف عن مواضع الزحافات والعلل، ولم يكن الشعراء معصومين من الخطأ في النظم، فقد يخطئون في بيت من قصيدة، أو يخلطون بين بحر وآخر، أو لا يميّزون زحافًا من آخر، فكان العروض الخليلي ميزانا بالغ الدقة للشعر، به يُعرف الصحيح من السقيم.
وكان الشعراء منذ زمن المهلهل وامرئ القيس وعبيد بن الأبرص يتفاوتون في ملكة الشعر، ولكنهم شبه مجتمعين على إقامة الأوزان التي توارثوها على أصولها، ومن النادر أن نجد في أشعار الفحول خللا في الوزن، إلا ما يندّ أو ما يقع عند المبتدئين والناظمين غير المطبوعين والمتطفّلين على الشعر، قال المعرّي في اللزوميات 1/ 294:
وناظِمٍ لعَرُوضِ الشِّعْرِ عَنْ عُرُضٍ
ومـا يُحِسُّ بأنّ البَيْتَ مَكْسُورُ
ونجد في تضاعيف تراثنا العربي أبياتًا مضطربة، ونقرأ فيه حكاياتٍ ونرى إشاراتٍ وتنبيهاتٍ على أبيات مختلّة الوزن، إما من منشئها أو من منشدها وراويها.
وأروي في هذا المقال الوجيز بعض الحكايات واللطائف في هذا الشأن، مما جرى على ألسنة الشعراء أو روايات الأدباء والعلماء:
* ومن ذلك أن أبا عليّ القالي، الأديب الشهير، صاحب الأمالي والنوادر، المعدودة من أركان الأدب الأربعة في تصنيف ابن خلدون مع البيان والتبيين وأدب الكاتب والكامل = أنشد بيتا قديما، ولكنّه كسره دون إدراك، وهو من هو في الأدب.. جاء ذلك في قصة ترويها مصادر الأدب الأندلسي، ذكرها المَقّري التلمساني في نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب 4/ 71، 72 في قصة إنشاد ذلك البيت المكسور، قال: وفد أبو عليّ القالي على الأندلس أيام الناصر أمير المؤمنين عبد الرحمن، فأمر عاملَهم ابن رماحس أن يجيء مع أبي علي إلى قرطبة، ويتلقّاه في وفد من وجوه رعيّته، ينتخبهم من أهل العلم والأدب تكرمةً لأبي عليّ الذي ذاعت شهرته في المشرق، ففعل، وسار معه نحو قرطبة في موكب نبيل، فكانوا يتذاكرون الأدب في طريقهم، ويتناشدون الأشعار، إلى أن تذاكروا أدبَ عبد الملك بن مروان ومساءلَتَه جلساءَه عن أفضل المناديل وإنشادَه بيت عَبدة بن الطبيب:
ثَمَّتَ قُمْنَا إلى جُرْدٍ مُسَوَّمةٍ
أَعْرَافُهُنَّ لأَيْدِينا مَنادِيــلُ
وكان الذاكرُ للحكاية الشيخَ القالي، فأنشد الكلمة في البيت:
(أَعْرَافُهَا) لأَيْدِينا مَنادِيلُ
فأنكرها ابنُ رفاعة الإلبيري، وكان من أهل الأدب والمعرفة، وفي خلقه زَعارة، فاستعاد أبا عليّ البيتَ متثبّتًا مرّتين، وأبو علي ينشده: (أعرافها)، فلوى ابنُ رفاعة عنان فرسه منصرفًا وقال: أمع هذا يُوفد على أمير المؤمنين وتُتجشّم الرحلةُ لتعظيمه؟ هذا الذي لا يُقيم وزن بيت مشهور بين الناس لا تغلط الصبيان فيه؟ والله لا تبعته خطوة، وانصرف عن الجماعة.
* ومن ذلك ما رواه أبو منصور الثعالبي في يتيمة الدهر 5/ 38 في أخبار أبي الضياء الحِمْصي، وخلاصته أن صديقا لأبي الضياء دخل إلى مجلس أُنسه، وهو يشرب النَّبيذ صرفًا بغير مزاج، ويسقي ندماءَه، وكان عنده مُغنٍّ يُغني ويقول:
يُدِيرُونَني عَـنْ سـالِمٍ وأُديرُهُم
وجِلدَةُ ما بَيْنَ العَينِ والأَنفِ سالِمُ
فقالَ أبُو الضياء: لو أسقط المطربُ (الما) من الشّعْر وجعله في قَدَحي، صلح الشّعْرُ والنبيذُ مَعًا.. يُعرّض بـ (ما) التي أفسدت الوزن، وكان حقّه أن يقول:
وجِلدَةُ بَينَ العَينِ والأَنفِ سالِمُ
* وأنشد أبو بكر الأنباري في السبع الطوال 410 وفي الزاهر 1/ 110 بيتين من بحر المنسرح لحُميد بن ثور الهلالي، وهما:
لا تَغْبـطْ أخـاكَ أنْ يُقـالَ له
أَمْسَـى فُلانٌ لعَمْـــرِهِ حَكَما
إنْ سَرَّهُ طُـوْلُ عُمْــرِهِ فلقد
أَضْحَى على الوَجْهِ طُوْلُ ما سَلِما
وصدر البيت الأول منهما مختلّ الوزن، ويستقيم بقوله: (لا تغبطِ المَرْءَ)، ونبّه على هذا الدكتور حاتم الضامن محقق الزاهر للأنباري. وفي وزن المنسرح نشوز وكزازة لا تقبلها بعض الآذان والأذواق، مع أنّ فيه قصائدَ جيادا في تراثنا الأدبي.
* وروى المرزُباني في (الموشّح 406 تحقيق البجاوي) حكاية جاءت في كلامه عن أبي عُبادة البحتري، وأشار إلى اختلال بيتٍ في شعره، قال: حدّثني أبو الحسن علي بن هارون، قال: كان ابن عمي أبو الحسن أحمد بن يحيى يقرأ على أبي الغوث يحيى بن البحتري أشعار أبيه البحتري بحضرة عَمّي أبي أحمد يحيى بن علي عند قدوم أبي الغوث علي العباس بن الحسن ومدحه إياه بقصيدة دالية أوصلها عمي إلى العباس، فأقام مدة، فكان مما قرئ عليه -وأنا حاضر- القصيدةُ التي مدح بها البحتريُّ الحسنَ بن سهل، وأولها:
ما بعَيْنَيْ هذا الغَزَالِ الغَرِيرِ
إلى أن انتهى إلى هذا البيت:
وكأنَّ الأيّــامَ أَوْثَرَ بالحُسْـنِ
عَلَيها يَوْمَ المَهْرَجانِ الكبيرِ
قال: وقد نظرت في النسخ الحاضرة لديوان البحتري فكانت متفقة على هذا البيت المكسور؛ الذي فيه زيادة سبب خفيف، وهو الياء والواو من (يوم) فقال له أبو الحسن ابنُ عمي: يا أبا الغوث، ألا ترى إلى هذا الغلط على والدكم أبي عبادة الذي لا يُتّهم بمثله؟ فقال: هكذا قال الشيخ (أي والدي، البحتري)، وقد أجمعتْ عليه النسخ، فلا أغيّره. فأقبل عليه عمّي يبيّن له موضع الكسر، ويُقطّعه له، ويَزنُهُ بالبيت الذي قبله والبيت الذي بعده، وهو غير مستنكر له بذوقه، وسامه عمي تغييرَه، فأبى ذلك، وقال: أأُغيّر شعر الشيخ؟ فقال عمي: هذا رجل قد وجب له علينا حق، وسار له فينا مدح، ويلزمنا تغيير هذا الكسر حتى لا يُعاب به، فغضب حتى ظهر عليه الغضب، فلم يستحسن عمّي معه أن يزيد في الكلام.
قلت: وقد راجعت ديوان البحتري فوجدت البيت مرويا بغير الكسر، ففي الديوان:
وكأنَّ الأيّــامَ أَوْثَرَ بالحُسْنِ
عَلَيها ذو المَهْرَجانِ الكبيرِ
ولعله من إصلاح صانع الديوان أو محققه.
* وأنشد ابن منظور في لسان العرب قول طُفَيل الغَنَويّ:
يَقُولون لمّا جَمَّعُوا لغَدٍ شَمْلَكُمْ
لَكَ الأُمُّ مما باليَعَافِيرِ والأَبُ
والبيت مكسور، كما ترى، والصواب: (لمّا جمّعوا الغَدْوَ) والذي في الديوان المطبوع برواية الأصمعي ص 68:
يقُولُونَ لمّا جَمَّعُوا الغَدْوَ شَمْلَهُمْ لك الأمُّ منا في المواطنِ والأبُ
* وجاء في معجم البلدان لياقوت الحموي عند كلامه على (خُوارِزْم) قوله: أوّله خاء بين الضُّمّة والفتحة، والألف مسترقة مختلسة ليست بألف صحيحة. ومن مصاديق هذا النطق الذي أشار إليه ياقوت قول السّجزي يرد على هجاء أبي بكر الخوارزمي:
وعاوٍ عَوَى مِنْ أَهْلِ خارِزْمَ خِيْفةً
كذا الكَلْبُ عِنْدَ الخَوْفِ مُجْتَهدًا يَعْوِي
إذ ينكسر وزن البيت بنطق الواو (خوارزم)، ويستقيم بقلبها ألفاء بعد الخاء: (خارزم) وأشار إلى هذا محقق كتاب الأمثال المولدة لأبي بكر الخوارزمي (383هـ)، وقال: ويؤيّد قول ياقوت أن قواعد اللغة الفارسية تهمل نطق الواو الواقعة بين الخاء والألف، فيقال في الخوانساري: الخانساري: وفي الخوارزمي: الخارزمي، وعلى الخاء حركة بين الضمّة والفتحة.
** **
- د. عبدالرزاق الصاعدي