ما كانت علاقتي بأبي أمين الدكتور محمد القسومي علاقةَ عملٍ ولا صحبتي له صحبة مستطرفة، وإنما هي صحبة تليدة ذات جذور أمدها أكثر من أربعة عقود حين عرفتُه في أوائل المرحلة الجامعية. ولأنَّ الأرواح جنود مجنَّدة فما إن ما عرفتهُ حتى ألفتُه؛ إذْ وافقت طباعُه طباعي، وكان يسبق عمره حكمةً وخبرةً، فرأيتني أنجذبُ إليه؛ وكأني أستشعر قول الشاعر:
واجعل جليسَك سيداً تحظى به
حَبْرٌ لَبِيْبٌ عاقِلٌ مِتَأَدِّبُ
حين تجالسُه لا تسمع منه إلا أعذب القول وأحسنه، بل وأغربه نتيجة الثراء المعرفي والثقافي بعامة، والأدبي على وجه الخصوص.
وثمَّ عدَّة سجايا أحمدها في أبي أمين، وأغبطها فيه، منها الدقّة والإخلاص في العمل، سواء أكان خاصًّا به أو بالآخرين؛ فذلك عنده سواء، من منطلق «إن الله يحبّ إذا عمل أحدُكم عملاً أنْ يتقنَه». وقد شرفتُ بالعمل معه في إعداد «مدوَّنة قرارات اللغة العربية في المملكة العربية السعودية» التي أصدرها مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، عام 1436هـ، فوجدتُ فيه حسن الإدارة، وجودة التنظيم، ودقة الملاحظة، وشيئًا من (حزمٍ) قليل.
ومنها: احترام المواعيد، والتعاطي معها بالدقيقة والثانية، ويؤمن أنَّ في هذا مشقة وعناء، لكنه يحبُّ أن يتعامل مع الناس بمثل ما يحب أن يعاملوه، وبلوتُه في هذا الجانب غير مرة فوجدته ساعة يابانية، ليس في قاموسه: (آسف تأخرت عن الموعد). وأذكر أنه قال لي ذات مرة: إنَّ احترام المواعيد تجاه الآخرين هو القيمة الذاتية والوفاء اللذان نمنحهما للآخر، والنظرة الإيجابية التي نشكلها عن أنفسنا.
ومن تلك السجايا نهمه الشديد في القراءة والاطلاع، وما مكتبته الخاصة التي أخذت حيِّزًا كبيرًا من البيت إلا خير شاهد، ففيها أمَّهات الكتب التراثية، والدراسات الحديثة والمعاصرة، وباتت تفوق بعض المكتبات العامة، وصارت ملاذًا لزملائه وطلابه حين يعييهم العثور على كتاب أو دراسة.
سافرتُ مع أبي أمين غير مرّة فكانت حقيبته لا تخلو من الكتب والأوراق، واتصلت به ذات مرة وهو في سفرٍ وعائلته خارج المملكة، وأفادني بأنَّه في اللحظة التي اتصلتُ بها عليه كان يقرأ في أحد الكتب التي صدرت حديثًا. فقلت له: ألا ترتاح من القراءة حتى في السفر الذي هو موضع الاستجمام والراحة؟ فأجابني: راحتي ومتعتي في القراءة. من أجل ذلك لا غرابة أن يكون موسوعةً في تخصّصه العام والدقيق ووظّف كل ذلك في دراساته وأبحاثه وأفاد منها طلابه أيما إفادة.
وممَّا قد لا يعرفه بعض الناس عنه أنه يقضي جلَّ وقته في خدمة الآخرين أساتذة وطلابًا، وقد دخلتُ عليه في مكتبه ذات مرة وهو قائمٌ أمام آلة التصوير يُصوِّر أوراقًا تبيَّن لي أنها لطالبٍ منتسب سيأتي بعد وقتٍ لتسلّمها. رجل بذل نفسه في خدمة من يعرف ومن لا يعرف، تدريسًا وإشرافًا ومناقشة وتصحيحًا ومشورة، كل ذلك مع شعوره بالمتعة وراحة البال «أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ».
ولا تسأل عن تواضعه الجمّ وأدبه الرفيع؛ حيث لا توجد عنده مسافةٌ بينه وبين الطلاب حينما كان رئيسًا لشعبة الامتحانات في الكلية، أو أستاذًا ورئيسًا لقسم الأدب فيما بعد.
ومختصرُ القول انَّ الدكتور محمد مجموعة إنسان اختزلت معاني الإخلاص والبذل والوفاء!
** **
أ.د. إبراهيم بن صالح الحندود - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم