لا أحصي عدد المرات التي سألتُ نفسي فيها: هل كنتُ أعرفه قبل أن ألتقي به لأول مرة؟ شيءٌ ما في الأُلفة الروحية التلقائية يجعلها تبدو وكأنها تُعاند -عن قصد- قوانين الفيزياء ومنطق الأشياء وبدهيات التراتب الزمني.
كان ذلك قبل ما يقرب من ثلاثين سنة، وكنتُ حينها طالباً دون العشرين في كلية اللغة العربية، وأرى زملائي الطلاب يتقاطرون على مكتبه ويُمطرونه باستفساراتهم التي لا تكاد تنتهي، فيجيب عنها بتؤدة وصبر وطول نفَس، ورنةِ صوت ما أزال أتذكر هدوءه وسط ضجيج الطلاب وصخب مطالباتهم. كان آنذاك هو المسؤول عن شؤون الامتحانات في الكلية، وللاختبارات يومذاك سطوة بالغة، ولم يكن من سبيل للوصول إلى نتائجها غير المشافهة الحضورية أو الكتابة الورقية الملموسة.
بعد ذلك بسنوات، وبسبب استمرار ظاهرة (الاحتشاد العظيم) الذي كانت الكلية تشهده أيام الاختبارات، لم يكن تصحيح الأستاذ لكراسات طلابه وتدقيقه الذاتي في الدرجات كافياً في نظر المسؤولين للوصول إلى تحقيق عدالة الاستحقاق بين الطلاب، ولهذا كانت تُؤلف لجان متخصصة في شؤون الاختبارات -بحسب المستويات- تتابع سيرها خطوةً بخطوة، وتدققّ في تصحيح الكراسات، وجمع الدرجات، وسلامة النتائج لكل المقررات، وهكذا تتحول الكلية في أيام الاختبارات إلى خلية نحل لا تتوقف عن المتابعة والتدقيق والتصويب، وحلّ المشكلات العارضة، وما أكثرها!
أمّا أعضاء هذه اللجان العاملة فهم الأساتذة المدرسون الذين يُختارون -عشوائياً في الأغلب- من جميع أقسام الكلية، بينما يُنتقى لرئاسة كل لجنة الأساتذة ذوو الخبرة والدقة والاجتهاد، وكما هو متوقع فقد كان الدكتور محمد القسومي رئيساً لإحدى هذه اللجان التي كنتُ -مع زملاء آخرين من جميع الأقسام- عضواً فيها، وكان ذلك في السنة الأولى التي عدتُ فيها إلى الكلية معيداً في قسم البلاغة والنقد، بينما كان (أبو أمين) محاضراً في قسم الأدب، ولك أن تتصور مقدار الدروس العملية التي كنتُ أتلقاها من هذا الرئيس المتفاني والمدقّق الدؤوب، والتوّاق دائماً للإجادة والإتقان، مع روح صداقة عذبة، وحلاوة حديث مسترسل، وقدرة مشهودة على تبديد السآمة بسرد الحكايات الشائقة، واقتناص التعليقات الطريفة.
مضت تلك الأيام سريعاً، وبقي لنا من تلك اللجان ذكريات أثيرة تتسرب أصداؤها بين العناء والإرباك والقصائد والطرائف والطرب، وانعقدتْ بسببها صداقات كثيرة بين الأساتذة من شتى الأقسام، وهي الصداقات التي انحسرتْ إمكاناتها بعد ذلك، فقد استقل كلّ قسم بأعماله الإدارية، وتبددتْ -كأنْ لم تكن- تلك الظاهرة الاحتفالية بالاختبارات، مع التخفُّف من طابع التدقيق الجماعي الذي كان عنوان تلك المرحلة.
من جانبي ظفرتُ بأشياء كثيرة من تلك الحقبة، ومن أهمّ ما ظفرتُ به: صداقة أبي أمين التي ازدادت مع الأيام رسوخاً، وتوثّقتْ أواصرها على امتداد ربع قرن: حضوراً ووفاءً ومواقف.
لو أردتُ اختزال شخصية أبي أمين في صفة واحدة أو تعبير جامع -والاختزال بطبيعته يفتقر إلى الدقة- فسأختار تعبير (صديق التفاصيل)، بهذه الصداقة الفريدة استطاع أن يؤدي على خير وجه المهام الإدارية التي أُوكِلتْ إليه، وقد عمل لسنوات ممتدة في لجان متخصصة ومجالس علمية وجمعيات ثقافية وفِرَق بحثية متنوعة، كما تولى باقتدار لافت رئاسة قسم الأدب طوال أربع سنوات بعد أن تولى وكالة القسم نفسه لثلاث سنوات سابقة، وفي كل هذه المحطات الإدارية كان التدقيق الواعي في التفاصيل حاضراً دائماً أينما حلّ أبو أمين.
وصداقة التفاصيل تبدو أكثر وضوحاً في الجانب العلمي من شخصيته: أستاذاً جامعياً، وباحثاً منهجياً، ومشرفاً أكاديمياً، ومناقشاً مدقّقاً في الأطروحات العلمية.
وتولّى بعد ذلك -وما يزال- رئاسة التحرير لمجلة (قوافل)، واستمرت هذه الهمّة العالية في التتبع الدؤوب لأدق التفاصيل في كل ما تنشره المجلة من مقالات ودراسات ونصوص، وقد وقفتُ بنفسي على شواهد هذه الدقّة، فقد نشرتُ مقالات ونصوصاً متنوعة في المجلة، وكم مرة أرسل إليّ لينبّهني -بأدبه الجمّ- على خطأ طباعي، أو ليستفسر عن مُرادي من كلمة معينة أو مصطلح محدد، أو ليستشيرني في التصميم الأنسب لإخراج المقال، بل حتى علامات الترقيم -على قلّة احتفال معظم الكتّاب بها- لم تكن هي الأخرى بعيدة عن اهتمامه وتدقيقه.
فأمّا إذا ضمّك وإياه مجلس حميم فأرعِ سمعك له حين يروي الحكايات ويسرد الأحداث، وتأمّل كيف يتوقف -في أثناء السرد- أمام تفاصيل صغيرة وفارقة لا يفطن لها أكثر الناس، وكيف يستنبط منها الكثير من اللمحات النفسية ومفارقات الطبائع الإنسانية.
وربما ببركة هذه الصداقة التي يعقدها أبو أمين مع التفاصيل يستطيع أن يستأنف حديثه معك -مهما طال العهد وامتدّ أمد الانقطاع- من الموضع نفسه الذي توقف عنده في آخر مرة، وبروح الصداقة الأليفة نفسها، بكل ما فيها من ودّ مسترسل ولطف متجدد واحتفاء نبيل، فقشرة التحفّظ التي يبنيها الكثيرون حولهم عندما يلتقون بك بعد انقطاع؛ لا مكان لها في قاموس معاملاته، لأن مدى الرؤية عنده أرحب نظراً من ذلك الانطباع الإجمالي الباهت الذي يحتفظ به أكثر الناس عن علاقاتهم الإنسانية، ولأنه يملك من الشجاعة النفسية ما يقاوم به إغراء الانكفاء، ثم لأن (كلّ التفاصيل على البال)!
وهكذا تضافرتْ هاتان السمتان الكريمتان في شخصيته: سمة العناية الحفيّة بالتفاصيل، وسمة الشجاعة النفسية، فأثمرتا: عطاءً زكيّاً، وإسهاماً ثريّاً، وقدرةً ملهِمة على الاضطلاع بالمسؤوليات ومواجهة التحدّيات وتخطّي الصِّعاب.
ها أنا ذا أتذكر، فأكتب، ثم تُشجيني الذكريات، فلا شيء مثل الذكريات القصيّة يوقظنا إلى ما قطعناه من مسافات على الدروب، ويلفت أنظارنا إلى خطوات هذا السارق الخفيّ للأعمار الذي نسمّيه: الزمن، ومع ذلك فلهذا السارق الدؤوب أياديه التي لا تُنكَر، فها نحن نلتفت إلى الدرب الطويل، فنستطيع بنظرة واحدة -وبخبرة التراكم- أن نميّز بين اللبّ والأوشاب، بين الرفاق والأصدقاء والأصحاب، وإنّ لأبي أمين بينهم مكانةً لا تُدانَى، وإني لأستحضر الآن أبيات أبي نصر المنازي التي أشجتْ أبا العلاء المعري حين ذكّرته بإيقاع الهديل وأصدائه الغائرة داخل النفس:
لقد عرض الحمامُ لنا بسجعٍ
إذا أصغى له ركبٌ تلاحَى
شجا قلبَ الخليّ، فقيل: غنّى
وبرّح بالشجيّ، فقيل: ناحا
وكم للشوق في أحشاء صَبٍّ
إذا اندملتْ أجدّ لها جِراحا
** **
د. سامي العجلان - قسم البلاغة والنقد - جامعة الإمام