لا أُقدّم جديداً حين أكتب عن الدكتور محمد القسومي العالم والناقد والأكاديمي العميق في تخصصه، ولا أضيف شيئاً يُذكر حين أتحدّث عن الإنسان الشّهم النبيل الذي جمع الله فيه المروءة، ومحاسن الأخلاق.
نعم، لا أُقدّم جديداً ولا أضيف شيئاً يُذكر؛ لأنَّ هذه الصفات معروفة ومشتهرة عنه، ولا تخفى على من يعرفه، وكل من تعامل أو تعاطى معه ولو بشكل عابرٍ وقدر يسيرٍ يرى تلك الصفات -سواء العلميّة منها أم الإنسانيّة- ماثلة أمامه تتدفّق من الدكتور تدفقاً.
بيدَ أنّي أزعم أنَّ لدي من الدقائق والتفاصيل عن الدكتور القسومي ما لا يعلم عنه كثير من الذين يعرفونه؛ ذلك أنّي شرفتُ بصحبته طويلاً، وكنت من أقرب الناس إليه، ولم أزل، كما أنّي عملت معه وتحت رئاسته في الجامعة فترة من الزمن ليست بالقصيرة، ورأيت في هذا الرجل توقداً نادراً، وذكاء فذّاً، وقدرة عميقة، ورغبة صادقة نبيلة في خدمة الناس، وبالأخص الطلاب والطالبات في الدراسات العليا، رأيت ذلك عياناً حين كان رئيساً لقسم الأدب –وكنتُ يومذاك وكيلاً له- فهو ينفق وقته وجهده وكامل تركيزه في خدمة الطلاب والطالبات، وينصت إليهم إنصات الوالد المشفق، ويبذل من جاهه وعلاقاته ومعرفته ما يقضي به أمورهم، وكانت مكتبته العملاقة الملاذ الآمن والنبع الغزير للطلاب –حتى لو لم يكونوا طلابه- ولزملائه الأساتذة، وللباحثين من خارج الجامعة الذين يتواصلون معه، يحدث هذا وهو لا تربطه بهذا الطالب أو تلك الطالبة أدنى معرفة، وليس في صميم عمله أن يفعل ذلك، وقد سألته ذات يوم عن ذلك -مشفقاً عليه وعلى وقته وطاقته- فابتسم وقال: في قضاء حوائج الناس متعة عظيمة في الدنيا، وادخار جزيل في الآخرة.
وفي سياق آخر، كان ذا همة عالية، وطموح باذخ، وكانت همته خلّاقة بالمبادرات الجديدة، كما كان غيوراً على مؤسسته الأكاديمية، مُتطلعاً إلى تطويرها والنهوض بها، ولذا عاش قسم الأدب في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام إبان رئاسته له أزهى مراحله، وتحوّل من قسم مغمور إلى علامة بارزة مضيئة في مشهدينا الثقافي والأكاديمي؛ ذلك أنَّ الدكتور محمد جدّد وغيّر وطوّر وأضاف، ونفض الغبار عن كثير من المسلّمات القديمة، وحفّز الأساتذة الذين اعتادوا البقاء في قاعاتهم بأن يخرجوا خارج الجامعة، ويقدموا ما لديهم للناس، فعقد الشراكات بين القسم ومؤسسات ثقافية متعددة، وأقام لقاءات علمية مفتوحة للأساتذة، واستقطب الكفاءات، وكان دافعه في كل هذا حبه لقسمه وانتماءه إليه، وغيرته على لغته وثقافة وطنه.
ولعلي هنا أذكر أنَّ الدكتور محمد القسومي كان أوّل من استحدث (الفكرة البحثية) التي يُقدمها الطالب لتسجيل رسالته العليا في الماجستير أو الدكتوراه، وهي فكرة فريدة ومبتكرة تتأسس على تقديم عرض موجز ومعمق في بضع صفحات تنبئ عن وعي الطالب بموضوعه، وامتلائه به، وهذه الفكرة تحال إلى عدد محدود من الأساتذة المتخصصين تخصصاً دقيقاً أول الأمر؛ لينظروا فيها قبل العرض على القسم، وهو بهذا يحفظ للطالب جهده، ويضمن للفكرة تطويراً واستصلاحاً، كما أنه يوفر كثيرا من الجهد والوقت على مجلس القسم، هذه الفكرة الرائدة التي استحدثها الدكتور إبان رئاسته القسم ظل القسم يعمل بها إلى يومنا هذا.
لقد كان الدكتور محمد القسومي أنموذجاً فريداً للأستاذ الأكاديمي العميق في تخصّصه، والشّهم النّبيل في علاقاته، والغيور الحريص على طلابه وطالباته، والرائد المبتكر في مبادراته ومشروعاته، وكم نحن بحاجة اليوم إلى مثله في مؤسّساتنا الأكاديميّة.
** **
أ.د. صالح المحمود - قسم الأدب - جامعة الإمام