«اللقاء الأوّل يظل في الذَّاكرة، لكنَّه (قد) يبقى إلى الأبد». كانت هذه العبارة المخيفة هاجسًا أردّده في نفسي، بعد اللقاء الأوّل وبعد اللقاء (المئة)! فحين قُبِلتُ معيدًا بقسم الأدب، في كلية اللغة العربية، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كان أستاذي الدكتور: محمد بن سليمان القسومي رئيسًا للقسم، وأنا - حينها- كغصنٍ رقيقٍ، ينثني مع نسمة الهواء، ويهتزّ بمرور العابرين، وأحسبني (كنتُ) مرهف الإحساس، تخدشني الكلمة، وتحطمني العبارة، وتُغرقني النظرة، ويدفنني الصمت. وحين أتحدَّث مع أحدٍ، ولا أشعر بارتياحه؛ أخافُ منّي عليه! فأطرقُ، وأفكّر، وأتحسّر، وأنزوي. فأنا الملوم الذي قد أكون مكدّرَ الصفو، ومعكّر الجوّ. وهكذا كانت الأيام والأشهر تمرّ مُرّة على ذاكرتي، وكنتُ أحسبها تمرّ مرّ السحاب. فرئيس القسم يعاملني- هكذا أظن وبعض الظن إثم - بجديّة لأضحك فيها، أضحكُ وأنتظر ابتسامته، وأتحدّث فيجيء رجعُ الصدى أقلّ من الصدى! وأكثر ذلك -بل كلّه- وهْمٌ، وزخرفٌ سوّلت لي بهِ نفسي. وأنا أقول بعد أكثر من عقدٍ من الزمان: بأنّه كان يتمثّل المنهج الإداري الياباني الذي يقول: «لن نغريك بالدخول، ولكن إذا دخلتَ؛ فسوف نغريك بالبقاء». ولقد انزاح ستار الوهم، فرأيتُ عطف الأب، وإحسان الكبير، ومهارة القائد، وحكمة الذي غاص في بحر الحياة، فلم يَكتب على الطرس إلّا ما يَعلَق بالقلب، ويُعلَّق على الصدر، فكان أوّلَ المتّصلين بعد نَيلي درجة الماجستير، وأوّلَ الحاضرين في مناقشة الدكتوراه، ينظر إليّ، ويبتسم ابتسامة أبٍ رفيقٍ رقيق. ولمَّا مرضَتْ أمّي -رحمها الله- حمل همّي، فكان يتّصل ويُصبّر، وحين رحلَتْ، وكتبتُ عنها مقالة عنوانها: «في ذمّة الله ما ألقى وما أجدُ!», فاجأني بكاؤه وأنينه، فبكيتُ؛ لإحسانه بدموعه التي جادت. وإنّ البكاء قصيدةٌ تُروى ولا تُطوى. ولم ينْسني بعد ذلك، فكان يُرسلُ ويتّصلُ؛ سؤالًا عن الأهل والأحوال. ولقد حمّلني أمانة إدارية عظيمة، إذ زرع ثقته في كلّ طريق إداريّ وعمليّ، ووضع بصْمته في عالمي المعرفي، حين شجّعني على العمل في وكالة القسم، ورشّحني في لجنةٍ إدارية يرأسها، واختارني عضوًا في كتابٍ يُشرف على جمعه، ومسؤولًا في مجلّة نقديةٍ يُدير حَراكها، فعلمتُ -بعد ذلك- أنّه إن وثِقَ وثَّق، وإن أحبَّ أرْحب، وعلمتُ أنَّ صمتَهُ مبتدأٌ لخبرِ الخيرِ الذي بعده.
وفضلُهُ لا تكتبهُ قَصصي، ولا تعزفُه مواويل أيّامي فحسب، وإنّما فضلُه كمعاني الجاحظ مطروحٌ في الطريق، يعرفُهُ الأوفياء، ولا يجحده المحبّون، واقرؤوا- إن شئتم- كتابات طلّابه عنه، حين يُشرف على رسائلهم، أو يصيرُ أستاذًا بين أيديهم، أو محاضرًا في دورةٍ تدريبية عن الأخطاء الكتابية الشائعة، وهو مرجعٌ في هذا، يُستشار فيسعد، ويُسأل فلا يتردّد.
وإنّي لأعلم أن الوفاء رفيع العماد، لكنّي أرجو أن أتسوّر محرابه ولو بحروفٍ تُكتب فتُقرأ، ويُعلم -حينها- أنّ للمخلِص عبقًا يبقى في يد الأوفياء، وفي قلوبهم، وألسنتهم.
** **
د. سليمان بن فهد المطلق - قسم الأدب - جامعة الإمام