إهداء إلى الصديق الكريم الدكتور محمد بن سليمان القسومي ..
تستعمل كلمة «التخصّص» منذ عدّة عقود عند المحترزين من المناهج الحديثة ومن الدراسات البينية خاصة شعار يدّعي وقاية البحث العلمي من مخاطر التحلّل ومن الذوبان في تخصصات أخرى، ومن مظاهر التعميم والتبسيط، ويزعم كذلك صيانة هوية المعرفة العالِمة في مجالها وداخل حدودها. وهذه الغاية لا يمكن أن يختلف فيها الناس لا محالة، ولكنّ التخصصات التي يتمسّك بها هؤلاء الرافضون لتقاطع المعارف لم يبق لها في الحقيقة وجود موضوعي في مجال البحث العلمي أو في صنافة حقول البحث، بل أمست مجرّد برامج ومقررات تدريسية محدودة ومعزولة عن النشاط العلمي، أي تخصصات ذات قيمة تاريخية فحسب، فالأبحاث الدقيقة في مختلف الشعب النظرية والتطبيقية تنتج اليوم من المعارف ومن الفروع العلمية ما لا يحصى ومن الحقول التخصصية ما لا يحدّه حدّ، فيصبح تخصّص الأمس معرفة عامة إزاء تخصص أدقّ يظهر اليوم كالتخصص في الصوتيات السمعية الحاسوبية بإزاء علم الأصوات ووظائفها عامة. وهذه التخصصات الجديدة غدت من جهة أخرى مجال تقاطع المعارف بالضرورة وموطن ترافدها وتراسلها، فلا يمكن مثلا أن نتعمّق اليوم في دراسة هندسة البديع في النثر الفني دون استعانة بنظرية الذكاءات المتعددة، وخاصة الذكاء اللغوي والتواصلي، لأنّ هذا اللون من النشاط البلاغي/ التقني ينتج في الحقيقة عن فائض ذكاء لغوي/ هندسي وعن نمط معقّد من أنماط التواصل الجمالي. والحديث اليوم عن الفكر البرزخي أو البيني إنما هو مرحلة من التفكير تُجاوز التخصص في دلالته القديمة إلى تخصصات أكثر عمقا ودقّة وارتباطا بالفكر المعاصر وبحاجات المجتمع العالِم وغير العالِم. وإنّ الدفاع اليوم عن التخصص إذن لا معنى له عند حديثنا عن الفكر البرزخي أو البيني. ولا يتيسّر مثلا لمن لم يحذق علوم الإيقاع في الشعر، وهو تخصص دقيق في الأسلوب أن يقفز للبحث في علاقة الإيقاع بالبيئة الاجتماعية وبالجغرافيا المجالية أو جغرافيا المدينة، وهو موضوع بيني، كما لا يتسنى لمن لم ينجز مسارا علميا في السرديات الإنشائية والتلفظية والتأويلية أن يواجه البحث في علاقة الأدب بالسرديات السينمائية والدرامية عموما بصفتها موضوعا بينيا. وفي تقديرنا تمثّل المؤسسة الجامعية الفضاء الملائم لتطوير المعارف النظرية والتطبيقية ذات المسار البيني، ويسمى أحيانا التخصص الإدماجي، فالتخصص في معالجة التوحّد النفسي، وهو حقل تتقاطع فيه علوم التواصل والعلوم الطبة يستفيد في آن من نتائج البحث العلمي في اللسانيات العصبية والذكاء التواصلي وفي التخلّق الجيني والطبّ النفسي. وإزاء هذا التطور العالمي للفكر البرزخي يصبح التخصص في مفهومه المدرسي الضيّق السائد منذ قرون موضوعا تاريخيا لا مكان له في خارطة الفكر العلمي المعاصر، بل يغدو التخصص مفهوما حركيا متطورا بتطور وظائف العلوم وبتنوّع أشكال استفادة المجتمعات منها. ولا يمكن للمرء أن يتجاهل اليوم التطور الهائل الذي يحصل في الحياة الثقافية خارج المؤسسة التعليمية سواء في فضاء التواصل الاجتماعي أو في أنشطة البحث العلمي الثقافي المتصلة بإنتاج الأشكال الفنية المزاحمة للأشكال التقليدية. ولعلّ من أسباب أزمة النص التي تعيشها قطاعات إنتاج السينما والدراما وخاصة المسرح تلكم القطيعة بين السرد الروائي الأدبي والسرد الروائي المرئي والمسموع، وتلكم القطيعة بين النقد الأدبي وتحليل الخطاب في وظائفه الكلاسيكية وعالم الإنتاج والتلقي الذي ظلّ يتطور خارج اهتمام المؤسسة الأكاديمية المتمسكة بالتخصصات القديمة دون سواها من مسالك البحث والإبداع في مجال الفكر الأدبي خصوصا والثقافي عموما. فإذا أردنا على سبيل المثال أن نأخذ صورة مكتملة عن رغائب المتلقي وجماليات التلقي في وسائل التواصل الاجتماعي أو في أشكال الإبداع السمعي البصري، وتكون تلك الصورة نتاج دراسة أكاديمية علمية مستوفية لجميع شرائط البحث فإننا لا نعوّل كثيرا على التخصصات الأدبية واللغوية المعهودة لأنّ النظرة البرزخية في ذلك الفضاء لا تزال منبوذة أو مهمّشة بدعوى الخوف على التخصص، بل نعوّل على حقول العلوم الثقافية وما توفّره من مفاهيم منهجية في الجماليات المتقاطعة وفي أنساق الرموز المتحاورة بين مختلف الفنون. فاللغة وفضاءاتها لا تزال عندنا مادة بعيدة كلّ البعد عن حركة الحياة وعن فضاءات التواصل والتفاعل والإبداع في الاستعارات أو البلاغات التي ينتجها المجتمع في خطاباته اليومية. لقد ظلّ الكثير من رافضي المناهج الحديثة في البحث الأدبي منذ عقود يخلطون بين مستويين من مستويات التعامل مع النص الأدبي: مستوى الاستهلاك والتلقي الجمالي والتذوق الأدبي والتوظيف الاجتماعي والتربوي من جهة ومستوى البحث العلمي الموضوعي والدراسة التحليلية وإنتاج المعرفة من جهة أخرى، فيدّعون أنّ دراسة النص الأدبي باستعمال أدوات المناهج الحديثة ومفاهيمها كالإحصاء وتشريح الخطابات وتدقيق المصطلحاالمستعملة في مختلف مستويات التحليل، يدّعون أنّ هذا التعامل مع الإبداع يقتل الإبداع ويذهب بقيمته الجمالية، ويتناسون أنّ وظيفة البحث الأكاديمي في استعمال المناهج ليست الترغيب في تذوّق الأدب، وليست التفاعل الاجتماعي والذاتي والانطباعي مع الجمال كما أنّ وظيفة عالم النباتات مثلا ليست الترغيب في تذوّق روائح الأزهار أو التمتّع بنكهة الخضراوات والفواكه بل الكشف عن مكوناتها وعن أسرار حياتها وعن خصائص نموّها وما يصيبها من الآفات. فتذوّق الأدب وعامة الفنون والتدريب على الاستفادة منها والتربية على حسن التلقي وتغذية الأبعاد الإنسانية والمدارك والأحاسيس بفضل الجمال الأدبي كلّ هذه الوظائف لا يقوم بها الباحث الأدبي في مختبره بل تضطلع بها البيئة الأولى أوّلا ومدرّس الأدب المسؤول عن تربية الإحساس بالجمال ثانيا، ويتمّ ذلك كله في تفاعل مع المقررات الدراسية والمؤسسات الثقافية والتواصلية التي تشرف على تنمية ثقافة المطالعة وعلى ترسيخ تقاليد القراءة، وعلى إثراء أعراف تلقّي الجمال الأدبي عامة.
** **
أ.د. صالح بن رمضان - تونس