المصداقية ضرورة مطلوبة في كل المجالات الاجتماعية وليس في الفن وحده. وما يناقضها في السلوك العام الفردي والجماعي هو المنافق والمرائي والنرجسي وغيرهم، وهؤلاء غالباً ما يستخدمون «عدم المصداقية» في ظرف مؤقت ولغاية مؤقتة.
عدم المصداقية في الفن تمتلك أبعادا مختلفة تماماً عن تلك التي تتعلق بالسلوك العام. فالفن لا بد له أن يتمتع بالشفافية لأنه موجه للناس بكل أطيافهم! ولأن الفنان ليس فردا بمفهوم العمل الفني. فهو «منظومة» من المنتج للعمل؛ والمتلقي له؛ والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية المعنية بالشأن الفني؛ والمستوى الفردي والجماعي الذي بلغه الفن في المرحلة التاريخية المعينة.
ومن المفترض أن العمل الفني يعكس معاناة اجتماعية ما. وهذه المعاناة تتطلب شعورا وتفاعلا مع الآخر. وما يميز الفنان هنا عن غير الفنان، يكمن في إمكانية التعبير عن «المعاناة الجماعية» تلك.
نقيض الشفافية هو الغموض. وقد ساد «الغموض كمدرسة فنية» في الأدب والفن التشكيلي، ولكنه لم يستطع اختراق الأغنية أو السينما أو المسرح! ومن وجهة نظري كمتلق أن الغموض فشل فشلاً ذريعاً في تقديم نفسه كمدرسة فنية، وهجره حتى من كان يحمل لوائه، عدا من استخدمه مطية لتغطية عجزه.
أشد ما أثار اشمئزازي في هذا الأمر؛ هو مسابقة للفن التشكيلي فازت بها لوحة؛ بها رسمة دائرة؛ نصفها أسود والآخر أبيض؛ وقد بيعت بمئات الألوف من الدولارات! ... والطريف في الأمر أن «اللجنة» الفنية فسرت اللوحة على أنها ضد «العنصرية والتفرقة بين البيض وذوي البشرة الداكنة»؛ ثم بعد عقد من الزمان تقريباً؛ اتضح أنها مجرد وسيلة لغسيل الأموال!. والسؤال الذي أثار حرقة غصصت بها هو: لماذا لم ينكشف أمر هذا العمل الجبان في لحظته؟
المؤلم في هذه المهزلة هو «الغفلة» الجماعية التي تفصل بين العمل الفني وصفاته الاجتماعية. فلا يوجد فن منفصل عن «الصراع» الاجتماعي. ولا بد من ادراك أن المدارس الفنية الوهمية، هي وسيلة لتجريد الفن من محتواه. ومن أجل ذلك يتم بذل أموال خيالية ليس لصناعة مدارس وهمية وحسب، إنما لصناعة «مشاهير» وهميين! وما يثلج الصدر أن الستار الفني ينزاح تلقائيا؛ حتى ولو بعد حين؛ عن الكذب والنفاق الفني.
قد يبدو للقارئ أنني أقحمت النرجسية اقحاماً في عدم المصداقية! والواقع أن النرجسي هو كاذب على نفسه أولاً، ومثل هذا لا يستطيع التمتع بمصداقية مع مجتمعه. ومآله الذي لا مفر منه هو التكلس في برجه العاجي.
** **
- عادل العلي