د. إبراهيم بن محمد الشتوي
أرجو ألا يؤخذ حديثي هذا على أنه حديث عن الصلة بين العامية والفصحى وتشجيع لإحداهما على الأخرى، فإن الذي يعنيني بالمقام الأول، هو أن نتمكن من الاستفادة من المعطيات التي يمكن أن تقدمها كل واحدة منهما بعيداً عن التخوف من انقراض الفصحى أو زوالها، أو التأثير عليها، لأنه من اليقين أن تعزيز الفصحى ونشرها بين الأجيال العربية وشعوبها له وسائل غير حرب العامية وذمها، والوقوع في عرض من يتحدث بها.
منذ زمن ليس بالقصير، وأنا معجب بهذا التنوع والثراء اللهجي العربي الذي يتسم به العالم العربي، إذ لا يختص كل إقليم بلهجة خاصة به، بل إن الإقليم الواحد ينطوي على عدد من اللهجات التي تزيد من هذا الثراء والتنوع.
وهم في ظل هذا الثراء اللهجي -إن صح التعبير- قادرون على التواصل فيما بينهم، والتفاهم، وهذا هو المهم الذي من أجله أنشئت اللغة، فإذا كانت هذه اللهجات قادرة على تحقيق هذا الغرض، فإن هذا يعني أنها صالحة للاستعمال داخل الدائرة الرسمية وهي الفصحى لتحقيق أغراض معينة ربما تواصلية شفهية أو سواها مما يراه المستعملون.
سأحاول أن أقدم الفكرة بصورة لا تكون مستفزة جداً لحماة الفصحى، منطلقاً من الصلة بين الثقافة واللغة، فلا شك أن اللغة ليست وسيلة تواصل وحسب، أو لنقل إن المحتوى الذي تحمله اللغة بناء على تواصلها مع أصحابها المتحدثين الأصليين أقام صلة وطيدة بين الأدوات التي يستعملونها في التعبير، وما يعبرون بها عنه، والطريقة التي يعبرون بها، ما جعل هذه العناصر الثلاثة تتداخل فيما بينها لتشكل اللغة، وفي الوقت نفسه تشكل الثقافة.
المشكلة التي تحدث عنها الشعراء والنقاد، والمفكرون والفلاسفة منذ عصر النهضة العربية (وبالتأكيد سبقتهم الأوربية إليه) هو أن هذه اللغة التي نستعملها في الكتابة والإعلام، والتعليم ونسميها الفصحى، كانت لقوم غابرين، تطاول على استعمالها قرون عديدة، فقدت فيها حضورها اليومي في حياة الناس، وصار كثير من الناس يتعلمونها في المدارس، وعن طريق القراءة والكتابة خاصة في ظل التغافل عن الرابط الكبير الذي يربطها بالعامية، واعتبار العامية لغة منحولة دخيلة لا سبب لها بتلك اللغة ولا قرابة.
ومع فقدان ذلك الحضور، فقدت اتصالها بالثقافي، وفقدت أثرها الثقافي في اليومي أيضاً، ما جعل استعمالها لا يعبر عما يدور في نفس الإنسان الشعبي أو العادي، إنما يعبر عن الشخص المتعلم (المثقف) الارستقراطي -كما سبق وأن قلت في حديثي عن اللغة والمجتمع- لا يتصل بالحياة اليومية، وبثقافتها بصورة كبيرة.
فالمعاني التي تعبر عنه هذه اللغة هي معان علمية، فكرية ثقافية، محكمة، شعرية، وكذلك هي في وجدان الإنسان العادي، الذي يشعر بأن هذه اللغة تكتنز بسلطة ما، سلطة المسجد والدين مرة، وسلطة المدرسة والتعليم أخرى، وسلطة الإعلام والثقافة ثالثة، وسلطة الدولة ورجالاتها شديدي العارضة من ذوي اللسن والخطابة، وهذا يبعدها عن الثقافة اليومية للإنسان العادي، ويحصرها في إطار معين.
وبعيداً عن إمكانية صهر هذه اللغة الكلاسيكية -إن صح التعبير- للتعبير عن الشأن اليومي، أو تحميلها بالمحمولات الثقافية اليومية من قبل فئة من الناس، فإن هذا لا يخرجها عن الأصل الاجتماعي- الثقافي والمعرفي التي نشأت به واستعملت فيما بعد، وربما يحجبها عن غيرها من الوسائل، وهو ما يجعل إمكانية تعبيرها عن اليومي ليس أمراً يسيراً، وإنما يحتاج تتابع أجيال يستعملونها وحدها في جميع أحوالهم حتى تكتسب تلك الحالة.
وفي مقابل ذلك نجد أن اللهجات المحكية تتميز بقدرة فريدة على التعبير عن ثقافة الإنسان العامي الشعبي، وعن مشاعره أيضاً الخاصة، وهي تحمل تلك المعاني نظراً لأنها أداة تواصله اليومية، ومشاعره، وبها انبنت ثقافته الأولى، وتشكلت أحاسيسه، فأصبحت المعاني تصل إليه من خلالها أصواتها، والمشاعر عن طريق نبراتها، وصار يستعملها إذا غضب أو جاع، وإذا تألم أو فرح، كما يستعملها في وصف تجاربه القاسية أو السارة، وفي قص أخباره الطويلة والبعيدة حتى التصقت به، وصارت دالة عليه أكثر من سواها، وصارت مستودع أحواله وأسراره، ما يجعلها قادرة على التعبير عنه في أوقاته الحميمة أدق تعبير، ليس بوصفها لغة مستعارة كساها متحدث بمعانيه وإنما بوصفها اللغة التي تحمل المعاني الأصلية التي امتلأ بها عند التجربة الحدث الأولى.
وعلى هذا، فإن اللهجة المحكية تجمع في تكوينها العناصر الثلاثة التي جمعتها الفصحى من قبل، وهي الأدوات، والموضوع، والطريقة وهي عناصر متنوعة وثرية تجعل صلة اللغة بالإنسان صلة عميقة، وخطيرة.
والأمر المهم في الموضوع أن اللهجة المحكية (العامية) تتنوع في العالم العربي تنوعاً كبيراً كما ذكرت في صدر المقال، وهذا يعني بدوره تعدد العناصر الثلاثة السابقة بقدر حاصل ضربها في عدد اللهجات المحكية في الأقاليم العربية، وهو ما يعني بدوره الثراء في التجارب التي يعيشها الإنسان في هذه الأصقاع، والثراء في طريقة التعبير، وفي أداة التواصل، وهذا ما ينعكس بدوره على ثراء هذه اللهجات الثقافي، والمتحدثين بها.