سهام القحطاني
«لقد سألتموني عن أسباب تدهور البلاغة واضمحلالها مع نشوء الأنظمة الديمقراطية، أي بدءًا من الربع الأخير من القرن التاسع عشر في الوقت الذي كانت فيه البلاغة واحدة من الممارسات الثقافية المميزة لدى آبائنا في الواقع، إن بلاغة آبائنا لم تهدف البتة إلى صياغة الرأي وتشكيل مواضيع المعرفة والاعتقاد الثقافية، لقد كانت بلاغة صورية شكلانية يُنظر لها باعتبارها فقط وسيلة من وسائل العرض التوضيحي الصرف «- شاييم بيرلمان - ت» أنور طاهر».
كان الاختلاف الفكري الذي أسس جذوره علم الكلام واستحدث تقنيات حجاجية حجر الزاوية في تحويل العقل البلاغي العربي من صيغ بيانية إلى خطاب فكري تبلور من خلال الفلسفة، لكن ما لبثت هذه الحركة الفكرية التي أنشأها علم الكلام وقادها فلاسفة المسلمين أن تجمدت رويدا رويدا، ولعل السبب الأول في هذا الجمود هو اكتفاء فلاسفة المسلمين بتطبيق النظريات الفلسفية الموروثة عن اليونان؛ أي أن الفيلسوف المسلم لم يسع إلى تقعيد نظريته الفلسفية الخاصة والمحررة من تأثير الفلسفة اليونانية والمنبثقة من طبيعة عقيدته، ولم يكن الاكتفاء فقط بتطبيق النظريات اليونانية والعجز عن إنتاج نظرية فلسفية إسلامية، بل هناك ما هو الأهم الذي أدى إلى «نكبة الفلاسفة المسلمين»، هو أن استغراق الفيلسوف الإسلامي في تطبيق نظريات الفلسفة اليونانية ألغى حاجز التفريق بين تطبيقات الفلسفة اليونانية وطرائقها التي تعتمد على مبدأ «أن كل يقين يسبقه شكّ»، وهذا المبدأ يتناسب مع الفكر اليوناني باعتباره فكرا إلحاديا، وأن النفي قيمة معرفية تتماثل مع الإثبات، لكن هذا المبدأ لا يُمكن تطبيقه على الأفكار الإسلامية «باعتبارها يقينا مثبتا بالحيثية والعلة».
وبالتالي فالشك والنفي الذي حاول الفيلسوف المسلم تطبيقهما ليحصل على شاهد فكري باليقين والقطعي أفسدا طرحه النظري وأثارا غضب الجمهور عليه، لتكون النتيجة «نكبة الفلاسفة في نهاية المطاف»، ولذلك لا نستغرب من وصف ابن خلدون لحال الفلسفة الإسلامية في مقدمته في الفصل الحادي والثلاثين تحت عنوان «إبطال الفلسفة وفساد منتحلها»؛ لأن هذه العلوم عارضة في العمران، وضررها في الدين كثير، ثم كان من بعده في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب وأتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل، وذلك أن كتب أولئك المتقدمين لما ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي تصفحها كثير من أهل الملة وأخذ من مذاهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها، وكان من أشهرهم أبو نصر الفارابي في المائة الرابعة لعهد سيف الدولة وأبو علي بن سينا في المائة الخامسة لعهد نظام الملك من بني بويه بأصبهان وغيرهما، واعلم أن هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه».
ولم يكن فشل فلاسفة المسلمين في إنشاء نظرية فلسفية توثق العقل البلاغي الفكري وتحافظ على نضوجه المعرفي وتطور تقنياته الخطابية ، بل هناك أسباب أخرى لتلك النكسة مثل إغلاق باب الاجتهاد ليس في الدين بل والعلم والمعرفة والفكر، فشاع التقليد والبدع والغلو والذي أورث فيما بعد المسلمين التخلّف والرجعية.
ولذا يمكن تقسيم السيرة الذاتية للعقل البلاغي العربي بأربع حقب: الحقبة الأولى تبدأ من العصر الجاهلي حتى ظهور الحركة الفكرية على يدّ علماء علم الكلام ثم الفلاسفة، هذه الحركة التي أسهمت في بناء إطار جديد للعقل البلاغي العربي يقوم على التقنيات الحجاجية بدلا من الصيغ البيانية، والحقبة الثلاثة ما بعد نكبة الفلاسفة وإغلاق باب الاجتهاد، واستمرت تلك الحقبة حتى ظهور مدرسة الإحياء التقليدية وإعادة الشعر العربي إلى حقبته الأولى.
ومع النهضة الشعرية التي قادتها مدرسة الإحياء صحيح إنها لم تُقدم جديدا على مستوى التقنيات الفنية بسبب تأطيرها بالتقليد الصرف للقصيدة العربية في صورتها الجاهلية، لكنها أعادت اعتبار البلاغة في صورتها المثالية من بيان خالص من شوائب التكلف والغلو البديعي.
ثم جاءت جماعة الديوان التي كانت بمثابة حركة تجديدية للشعر والنقد رافضة للمنهج الذي ترسخه مدرسة الإحياء في إعادة الشعر إلى سلطة العقل البلاغي القديم، لكن لم تسطع جماعة الديوان من فرض أفكارها على الوسط الأدبي العربي وتُحدث تغيرا فكريا، ولعل ذلك يعود إلى عدم جماهيرية شعراء هذه الجماعة مقارنة بشعراء مدرسة الإحياء، وحصر أفكارها التجديدية في نقد شعراء الإحياء وذلك ما ذُكر في مقدمة كتاب الديوان في الأدب والنقد للعقاد والمازني، «وقد مضى التاريخ بسرعة لا تتبدل وقضى أن تحطم كل عقيدة أصناما عُبدت قبلها، وربما كان نقد ما ليس صحيحا أوجب وأيسر من وضع قسطاس الصحيح».
والحقبة الرابعة هي حقبة الثورة الفكرية للنظريات اللغوية بداية من «فلسفة البلاغة» عند «آيفور رديتشاردز» 1936 هذه الفلسفة التي صاغت نظرية «خرافة المعنى الخاص» «ونبش النار من الأعلى» التي وقع فيها البلاغيون القدماء بحصرهم الكلمات في معنى كلي مطلق، فكانت دعوة لعتق اللفظ من عبودية الدلالة الأحادية سواء في صورته الذهنية أو المعرفية، هذه الفلسفة التي ترتب عليها ظهور النظريات في مجال اللسانيات والاتصال والسيمياء.
وفي عام 1958م ظهرت نظرية «البلاغة الجديدة»لشاييم بيرلمان أو البلاغة «الحجاجية الإقناعية»، التي أعادت البلاغة إلى مستواها الفكري.
صحيح أن أدباء العرب منذ جماعة الديوان وحتى اليوم كان تفاعلهم المعرفي إيجابيا مع النظريات الفكرية الغربية وخاصة في مجال نظريات اللغة والنقد، لكن تفاعلهم ذلك لم يتجاوز الترجمة والتوضيح والتفسير، وهو نهج لم يُحقق لهم إضافة في مجال تلك النظريات، والأمر لم يختلف نحو النظريات الحديثة في مجال البلاغة مثل «نظرية البلاغة الجديدة»، لذا ظلت البلاغة العربية في نسختها التراثية قيد التقليد ومهيمنة على العقل العربي؛ بسبب ابتعاد الناقد العربي عنها وإسرافه في تفكيك النظريات النقدية؛ لذا ظلت البلاغة حبيسة المسطرة المدرسية.
ولعل خوف الناقد العربي من المساس بالرمزية المرتبطة بالبلاغة التراثية» النص القرآني» وسلطة الجمهور التي أسهمت سابقا في نكبة الفلاسفة عندما اقتربوا من خط البلاغة، جعلته يعزف عن اقتحام مجال التجديد البلاغي كما فعل في النقد والشعر واللغة، إضافة إلى - وهو الأهم - أن البلاغة الجديدة في مفهومها الحجاجي الاقناعي هي حاصل الحرية سواء في مستواها العقدي أو الفكري وهو أمر غير موجود في المجتمعات العربية؛ وكانت كل محاولة لتطبيق النظرية البلاغية في مفهومها الجديد تُقابل بالرفض والنبذ كما حدث مع الشيخين محمد عبده ورفاعة الطهطاوي؛ لأن العقل البلاغي التراثي أسس في المجتمعات العربية قدسية الصوت الواحد والثنائيات القطعية الحق والباطل، الصحيح والخطأ، وهي ثنائيات غالقة للحوار والاحتمالات وداعمة للديكتاتورية الفكرية.
فالبلاغة ليست صيغا بيانية تتحكم في جمال الكلام بالاستيفاء وقبحه بالانتفاء، أو أقيسة محصورة على ضبط أطراف الكلام ودلالاته، بل هي قوانين فكرية تُشكل للمرء أسلوب فكره ودستوره العقلي ورؤيته في إنتاج المفاهيم والمواقف والأحكام.