عرفتُ الأستاذ محمّد القسّومي زميلاً في قسم اللغة العربيّة بجامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلامية بالرياض، في الفترة التي قضيتها في المملكة العربية السعودية من سنة 2007 إلى سنة 2018 . وتعزّزت علاقتي به حين تولّى مهمّة رئاسة القسم، ولم تزدها الأيام، حتى بعد اختتام خطته وانتهاء عقدي وعودتي إلى تونس، إلا متانة وصفاء.
محمّد القسّومي يعمل في صمت ولا يتردّد في السؤال عن قضايا علمية أو أكاديمية تؤرّقه ولا يجد لها حلاً، أو يلاحظ فيها اختلافاً في الآراء. وهو في أسئلته لا ينطلق من أحكام مسبقة، بل تجده متقبّلاً لكل الآراء والنزعات والمواقف مهما افترقت، لا يريد منها إلا الوصول إلى الحقيقة، ولا يطلب منها إلا تحويل مناطق اللبس نقاط ضوء تنير السبيل، وجَعْلَ المَهَامِهِ صُوًى يَستدِلّ بها المُدْلِجُ على علامات الطريق.
ولعل تلك الشخصية المنفتحة التي تسعى إلى المجاوزة هي التي شدّتني إليه وجعلت صلتي به تزداد مع الأيام قوة ومتانة. ففي الوقت الذي كانت فيه النظريات الحديثة في تحليل الخطاب تثير في البعض التوجّس والرفض واللفظ، لعدم تطابقها مع ما لُقّنوه من أفكار أو لعدم قدرتهم على تمثّلها، كان محمّد القسّومي يفتح نوافذ عقله على رياح النظريات الحديثة، ولا يرى حرجا في الانتصار لها حين تتألب عليها قوى الثبات والسكون. وهو في ذلك كله، لا يجمح جموح المندفع، بل يمضي في طريقه هادئاً، مبتسما، يسعى ما استطاع إلى رتق الفتق، ووصل المنقطع، بحثا عن محلّ تلتقي فيه المتناقضات وتتآلف المتضادّات.
وتلك سجيّة من سجايا محمّد القسّومي. فهو رجل وسطيّ في الحياة، وفي العلم. حليم في علاقاته مع زملائه، وطلابه. معتدل في موقفه من المعرفة، يلتمسها حيث كانت، بلا تحيّز، ولا تعصّب، ولا محاباة! وما زلت أذكر جلسات مجلس القسم التي كان يرأسها حين آلت إليه المهمّة بعد انقضاء فترة الأستاذ عبد الله الرُّشيد، ذلك العلَم الفرْد الذي شقّ في مياه القسم الآسنة طريقا للعلم والتَّجديد، ومضى لا يطلب جزاء ولا شكورا، ولا يبحث عن المناصب ولا عن الكراسي! كانت جلسات القسم في عهد القسّومي امتداداً لما أرساه عبد الله الرُّشيد، كانت ندوات علميّة بمعنى الكلمة: حوار ونقاش يخفت أو يحتدّ، ولكن لم يكن أحد قادرا على تكميم الأفواه ولا على استبدال حجّة القوّة بقوّة الحجّة.
وحين تقترب من محمّد القسّومي تدرك أنّ ذلك الرجل الذي جاء من القصيم بزاد من القيم التي تُرسِّخ الموروث استطاع بحنكة فريدة أن يقف على شفا القديم والجديد، والطارف والتليد، والمحلّي والكوني، فلا يكون الموروث عنده مقدَّما على المكتسَب، شريطة أن يُسيغَه العقلُ ولا يأباه المنطق السليم.
كذلك كان دأب القسّومي في حياته، وفي وظائفه المهنيّة، وكذلك كان في دراساته. وقد نظرتُ في ثلاثة بحوث منها، فوجدت فيها مصداقاً لما أبانت عنه شخصيّته الإنسانية التي أشرت إلى طرف منها.
1. الواقع العربي في وجدان الشاعر السعودي.
صدر هذا البحث في مجلة كلية دار العلوم، المجلد 37، العدد 129، مارس 2020. وهو يندرج في إطار العلاقة القديمة التي ربطت محمّد القسّومي بالدرس الشعري. فقد نال شهادة الماجستير ببحث عن «محمّد السنوسي: حياته وشعره»، وحصل على الدكتوراه ببحث عن «الشعر في مكّة والمدينة في القرنين التاسع والعاشر الهجريين»، ومن دراساته في هذا المجال «شعر الحسين بن ريّان جمعاً وتوثيقاً»، و»الانزياح في شعر أحمد الصالح». فلا غرابة أن نراه عاكفا على دراسة الشعر السعودي في هذا البحث.
ولئن كان توجُّه القسّومي في بداية أمره تاريخياً، فإننا رأيناه بعد ذلك ينفتح على المنهج الأسلوبي فيصرف عنايته إلى مسألة العدول. ولا يلبث في هذا البحث أن يثني عنان جواده إلى المنهج الموضوعاتي. وفي هذا ما فيه من دلالة على حرصه على التجديد ونفوره من الركون إلى القديم وارتياده وعر الثنايا.
وقد بنى الباحث عمله على مراحل ثلاث: انطلق في أولاها من موضوعات الواقع العربي في الشعر السعودي. وتحدّث فيه عن أربع قضايا شغلت هؤلاء الشعراء هي القضيّة الفلسطينيّة والأحداث المصريّة والكفاح الجزائريّ والاعتداء على الكويت. وعالج في المرحلة الثانية سياقات الشعر السعودي في التعبير عن الواقع العربي، وفي طليعتها الاستنهاض والتفاؤل والتفاخر. وختم بدراسة المعجم الشعري المعبّر عن الواقع العربي، فرصد أبرز الحقول الدلالية المتواترة في تلك النصوص وهي: الظلم والغدر والقيد والأسى والموت وأدوات الحرب والحيوان والأصوات والألوان.
ولئن كان القسم الأكبر من البحث مخصَّصاً لمضامين الشعر، فإنّ القسّومي ألمح في مستهلّ المرحلة الثالثة إلى خلل يعاني منه أكثر الباحثين الذين يُجْرون المنهج الموضوعاتي هو الاعتناء بالمدلول على حساب الدالّ، وهو ما دعاه إلى إيلاء المعجم الشعري نصيبا من عنايته. وهذه الإشارة تدلّ على وعيه بالجوانب النظرية في المنهج، وإن كانت العلاقة بين الشكل والمضمون في المنظور الموضوعاتي أبعدُ غورًا وأشقُّ سبيلا.
والحقّ أنّ قارئ هذا العمل لا يملك إلا أن يعجب بقدرة صاحبه على الاطلاع على هذا الكمّ الغزير من الشعر في طور زمنيّ ممتدّ نسبيّا، وفي علاقة بموضوع واسع متشعّب، وأن يقدّر الجهد المبذول فيه لشقّ طرق واضحة في هذا المَهْيَع المترامي الأطراف. مما يدلّ على أنّ محمّداً القسّومي لم يكن ممن يركن إلى السهولة، بل كان يَتَوَقَّلُ المَضائِقَ ويَرُودُ وَعْرَ المَسالِك.
2. وصف الشخصيّة الرئيسة في رواية زقاق المدقّ لنجيب محفوظ.
هذا بحث قدّمه محمّد القسّومي في المؤتمر الدولي الأوّل للسرديّات الذي نظّمته الجمعيّة المصريّة للدراسات السرديّة، وانعقد بجامعة قناة السويس أيام 29-31 مارس 2008 .
أوّل ما يستوقفنا في هذا البحث مدوّنتُه الحديثة، وتَعَلُّقُه بجنس الرواية الذي ما زال من المحافظين من ينظر إليه بريبة وازدراء، خصوصاً أنّ القسّومي انصرف فيه عن الشعر ولاذ بالسرد، فعكف على رواية من روايات نجيب محفوظ، أحدِ أبرز أعلام الرواية العربية الحديثة، هي رواية «زقاق المدقّ». ومن هذه الرواية انتقَى الشخصيّة الرئيسة، ومن تلك الشخصيّة اهتمّ بالوصف، وهو أسلوب من أساليب القصّ ذكره البلاغيّون القدامى وأولاه السرديّون المحدَثون أهميّةً مخصوصة في تحليل الخطاب السردي.
بنى الباحث هذه الدراسة على مرحلتين خصّص أولاهما لحركة الوصف، بدءا بحركة الموصوفات وانتهاء بحركة الصفات، وبيّن أثر ذلك في طريقة تقديم الشخصيّة؛ وخصّص المرحلة الثانية لوظائف الوصف: مستعرضا أربعا منها، هي التمهيد للأحداث وتطويرها، والوظيفة التفسيرية، ووظيفة الإيهام بالواقع، والوظيفة التزيينيّة (الجماليّة).
والناظر في هذا العمل يلاحظ أن صاحبَه استعان فيه بدراسات غربيّة مترجمة من قبيل «سيميولوجيّة الشخصيّات الروائيّة» و» في الوصفيّ» لفيليب هامون، و»حدود السرد» لجيرار جونات، إلى جانب مؤلَّفات لباحثين عرب ممن رسخت قدمهم في الدراسات السرديّة أمثال الصادق قسومة وعبد اللطيف محفوظ وحسن بحراوي، لا، بل إنه عاد إلى عمل غير منشور عند تحرير المقال وهو بعنوان «الوصف في القصة القصيرة السعودية» أنجزته هيفاء الفريح لنيل شهادة الماجستير. وكانت إحالاته سواء من الدراسات التي عاد إليها أو من رواية «زقاق المدقّ» دقيقةً ومفيدةً ودالّةً.
وقد اختار القسّومي شخصيّة حميدة، وهي شخصيّة إشكاليّة جسّدتْ نموذجا غير مألوف في المجتمع المصري، ومرّت بأطوار معقّدة متضاربة جعلت منها مدار الحركة السردية وقطب رحاها. واستطاع أن يقنع بحسن اختياره إيّاها وخاصة بوجاهة الوصف مدخلا لا لفهم الشخصيّة وحسب، بل لفهم الرواية والمجتمع في فترة مفصليّة من تاريخ مصر الحديث أيضاً.
3. شخصيّة الرجل في رواية «جاهليّة»، لليلى الجهني.
صدرت هذه الدراسة في مجلة «جذور» (النادي الأدبي الثقافي بجدة)، ع 61، 2021. وقد سعى فيها محمّد القسومي إلى تقصّي ملامح شخصيّة الرجل في رواية كانت في وقت من الأوقات منبوذة في نظر من يعتبرون أنّ ليلى الجهني قصدت من روايتها إلى الإساءة إلى الرجل السعودي والعربي إجمالا والثأر منه بإخراجه في صورة الظَّلوم الغَشوم الذي لا يُقرّ بحق المرأة في المجتمع. وهذه الإدانة للمجتمع الذكوري من منطلق نِسويّ هي التي جعلت قرّاء الرواية يقفون فريقين على طرفي نقيض: المناصرون لحقوق المرأة وهم يرون في رواية «جاهليّة» نصّاً جريئاً وصرخةَ حقٍّ من أجل العدالة، والمعادون لهذه النزعة الدخيلة والمحتمون بالماضي وبالقيم الموروثة، وهم يرفضون الرواية ويعتبرونها هرطقة وفتنة ومسّاً من المقدّسات.
من هنا تأتي أهميّةُ اختيار مدوّنة هذه الدراسة وموضوعها. فالباحث يتّخذ مقعدا «أكاديميّاً» يقوم من خلاله بتشريح صورة الرجل في هذه الرواية، دون تحامل على المرأة ولا إدانة لها، ودون انتصار غير مسوّغ للرجل وما تقوم عليه صورته أحياناً من بطش وغطرسة.
إنّنا نشعر أنّ القسّومي بلغ في هذا البحث درجة عالية من النضج سواء من جهة الآلة النقديّة التي وظّفها في قراءة الرواية، أو من جهة الرؤية التي صدر عنها في تفكيك شفراتها. وهو يقول إنّه زاوج في بحثه بين المقاربة الإنشائيّة والمقاربة الموضوعاتيّة. وهذا في ذاته اجتهاد محمود، باعتبار أنّ الشخصيّة مقوّم أساسيّ من مقوّمات الحكاية، وهي في الوقت نفسه حاملة لمضامين لا تتّسع القراءة الإنشائيّة للإحاطة بها والإلمام بكافّة أبعادها. وقد تجلّت هذه المزاوجة الموفّقة بين المنهجين في حديث الباحث عن نماذج ثلاثة من الرجال حضروا في رواية «جاهليّة»: هاشم المدلّل المتعجرف الفاشل، ومالك الإفريقيّ العاشق المقهور، والأب المعتدل الذي يتفهّم الأوضاع ولكنّه لا يملك مخالفة الجماعة فيمضي في الطريق المسطّرة وإن لم تتطابق مع ما يفكّر فيه ويُؤيّده في قرارة نفسه.
إنَّ هذا البحث في نظرنا مؤشّر على أنّ القسّومي بدأ ينفتح على النقد الثقافيّ، وكأنّه لم يعد يرضى بالبقاء في عباءة الأكاديميّ الذي يمسك بمبضع النقد ليفهم كيفية اشتغال النص، بل صار يُدرِج النصَّ في سيرورة التحوّل الاجتماعيّ، ويتقصّى الأنساق المضمَرَة فيه بحثا عن محرّكات الإبداع المتحوّلة في مجتمع متحوّل.
والحاصل أن محمّداً القسّومي إنساناً لا يختلف كثيراً عنه باحثاً. فهذا الرجل الرصين المتواضع الطُّلَعة تجلّى في الدراسات التي أنجزها باحثا ثبتًا لا يتكلّم إلا بحجّة ولا يخطو إلا بشاهد، ودارسا مصغيا إلى غيره موفيا السابقين حقّهم، ومتجدّدا يكره المقاعد الوثيرة ويوجّه نظره إلى المستقبل طلبا للمعرفة، وخدمة للغة العربيّة، وتكريسا للهوية، واندراجا في العصر.
** **
أ. د. محمّد القاضي - تونس