محسن علي السهيمي
ربما تغيب عن أذهان بعض القائمين على الصحف مسألة (المد والجزر) في نسبة القراء التي تتفاوت بدورها من قسم لآخر ومن مرحلة لمرحلة، وهذه النسبة تحكمها ظروف معينة، وهذه الظروف يكون للصحيفة -أحيانًا- يد فيها. من الأقسام الصحفية التي تمثّل ركيزة في الصحف (القسم الثقافي) وهو الذي قامت عليه صحفنا المحلية حينما بدأت بهوية (أدبية) فاشتغلت على الأدب وشؤونه وقضاياه. ولأن لكل موجة ضحية فقد كان لموجة التقنية العاتية التي أثَّرت على الصحف -إعلانيًّا فمقروئيًّا- ضحايا، وكانت الأقسام الثقافية هي الضحية الأولى وكبش الفداء الذي دفعت به الصحف للموجة التقنيَّة؛ ظنًّا منها أن الثقافة لا تشكل رقمًا ولا تحظى بمكانة مرموقة لدى القراء، ثم تبيَّن للقائمين بأمر الصحف أن الثقافة ليست الجدار الأقصر، وأن قراءها لا يقلون -كمًّا وكيفًا- عن قراء الأقسام الأخرى، بل تبين لهم أنه بالقدر الذي تجوِّد فيه الصحيفة (ملاحقها وصفحاتها الثقافية) تزداد أسهمها لدى القراء وخاصة الشريحة العريضة من المثقفين، وتبين لهم أنه بالقدر الذي ترتفع فيه سخونة محتوى الملاحق والصفحات الثقافية وإثارتها فإنه يقابل ذلك تمدد أفقي للصحيفة وتداول لاسمها ومحتواها بين القراء بمختلف ميولهم. وبعد سنوات (معدودة) من الركود الذي مرت به الصحف وكانت ضحيته غياب الملاحق الثقافية العريقة كملحق الأربعاء الذي كانت تصدره صحيفة المدينة وملحق الندوة وغياب الأقسام الثقافية التي اختفت كليًّا من بعض الصحف، وفي بعضها بقيت مجرد صفحة إخبارية، وبعضها حاول المقاومة والبقاء في المشهد الثقافي بحسب الإمكانات المتاحة، بعد هذا الركود نرى الحياة بدأت تدب شيئًا فشيئًا في جسد الأقسام الثقافية؛ فرأينا الاهتمام بها بدأ يعود في بعض الصحف، ورأينا ملاحق أسبوعية تعاود الركض بتدرج في المشهد الثقافي، وعلى إثر ذلك رأينا عودة لافتة للمثقفين عبر هذه الملاحق. على المستوى المحلي لا يغيب عن أذهاننا هذا الملحق الأسبوعي المتميز (المجلة الثقافية) الذي تصدره صحيفة الجزيرة، ونستحضر كذلك الملحق الثقافي الأسبوعي الذي نصافحه في صحيفة الرياض، وكذلك نصافح أسبوعيًّا الملحق الثقافي في صحيفة عكاظ، وقبل فترة ظهر ملحق (آفاق) الأسبوعي الذي تصدره صحيفة المدينة ويعنى بالشأن الثقافي. حالة العودة للثقافة عبر الملاحق والصحافة الثقافية تخطت المستوى المحلي لتصل إلى المستوى الخليجي وربما العربي؛ فها هي صحفة القبس الكويتية تصدر منذ قرابة السنة ملحقًا ثقافيًّا شهريًّا رائعًا في (24) صفحة ملونة، وقبل أسابيع فاجأتنا صحيفة عُمان العُمانية بملحق ثقافي شهري فخم في (32) صفحة ملونة، وغيرها من الملاحق الثقافية المستحدثة والمتجددة في الصحف الخليجية والعربية. ولأن للملاحق الثقافية أهميتها وريادتها وضرورتها نجد الشاعر الأستاذ عبدالله الصيخان يراهن في برنامج (صنوان) على الثقافة بمفهومها الواسع الشامل ويرى أننا «نحن الكاسبون فيه حتى لو خسرنا لأنك تقدم الثقافة الجادة مقابل الثقافة الاستهلاكية، الثقافة التي تثري سواء عبر المقال أو عبر النقد والقصة والشعر»، ونرى المفكر الدكتور هاشم صالح يؤكد في ملحق صحيفة عُمان المذكور آنفًا على أن «الثقافة هي وحدها التي تبقى، وربما لهذا السبب نلاحظ أنه لا توجد صحيفة كبرى في عالمنا المعاصر إلا وتحتوي على ملحق ثقافي أسبوعي»، مضيفًا إنه «ينبغي ألا ننسى أن الجرائد الحالية تتباهى وتتفاخر بملاحقها الثقافية أكثر بكثير مما تتباهى بصفحاتها السياسية العابرة بطبيعة الحال؛ وذلك لأن الثقافة هي زبدة الزبدة أو جوهر الجواهر في جميع بلدان العالم، المعبرة عن روح الأمة وأصالتها وشخصيتها وإنسانيتها». وقد أكد الكاتب الأستاذ حجاج سلامة في مقال له بصحيفة (meo) على أن صدور ملحق صحيفة عُمان الثقافي جاء «ليؤكد على كل تلك المؤشرات التي تدلنا على أن حالة حراك ثقافي واسع تنتشر في أروقة المؤسسات الإعلامية العربية». في مسألة النسبة والتناسب في عدد قرّّاء الصحف يمكننا القول إن الثقافة ممثلة في (الملاحق الثقافية والصفحات الثقافية) تأتي في مراكز متقدمة؛ ذلك لأن السياسة والرياضة وأحداثهما تكفلت بها القنوات الفضائية التي تعمل على ملاحقتها وتحليلها على مدار الساعة، والأخبار المحلية تتلقفها الصحف الإلكترونية ووسائل التواصل لحظة بلحظة، ولذا تبقى الصحف بملاحقها الثقافية (الأسبوعية والشهرية وصفحاتها الثقافية اليومية) خير من يُعنى بالشأن الثقافي وهمومه وقضاياه. ومهما يكن، فللثقافة مريدوها ومحبوها ورموزها الذين يشكلون شريحة واسعة من أي مجتمع؛ فهي الشريحة الناطقة بلسان المجتمع المعبرة عن همومه وقضاياه المشتغلة على المستقبل وتطلعات المجتمعات والأوطان. من هنا جاءت أهمية الثقافة ومن هذه الأهمية جاءت (الالتفاتة الجديدة) من الصحف للثقافة، وهو ما يتطلب زيادة ال اهتمام بها -مضمونًا ومساحةً- عبر صفحاها، ويتطلب الخروج من القوالب الجامدة؛ بحيث يكون المحتوى ذا قيمة عالية وتكون الإثارة الواعية حاضرة بكل تفاصيلها في الملاحق والصفحات الثقافية، ولتعملْ على التجديد في الطرح، واستيعاب الأسماء الجديدة وإبداعاتها، ولتستقطب المحررين المشتغلين -فطرةً- بالهم الثقافي ولديهم الموهبة في صناعة الحدث الثقافي وتحريك راكد المشهد الثقافي، وليطمئن القائمون بأمر الصحف لهذه الخطوات التنويرية، وليثقوا أن الثقافة سوقها لا تزال بخير وتُعد رافدًا مهمًّا لأي صحيفة، وليسترجعوا من مرَّ بأقسام الصحف من الأسماء وما مر بها من أحداث، هل بقي في الذاكرة منها ما يوازي من مر بالصفحات الثقافية من الأسماء وما مر بها من أحداث؟ وهل هناك أثر (مادي، معنوي، فكري) خلَّفته تلك الأقسام يوازي الأثر الذي خلفته الأقسام الثقافية؟ ثم ليوقنوا بأن إصدار الملاحق الثقافية مع الاعتناء بالصفحات الثقافية اليومية هو قَدَرُ الصحف الكبرى وحدها، هذا إذا آمنوا أن الثقافة كما يقول مشرف هذه المجلة الدكتور إبراهيم التركي «وعي وسعي ناءٍ عن التظاهر والتمظهر» وأنها «ركاز لا ارتكاز».