د.فوزية أبو خالد
رغم ترددي الشديد في تحويل الأسى الذي اعتصر مهجتي مطلع الأسبوع قبل الماضي من أحاسيس داخلية حرى إلى حبر وكلمات خوانة فلم أستطع إلا أن أتجبر على نفسي لأكتب كلمة حق وحب في حق د. نورة بنت صالح الشملان تلك السيدة السامقة الصابرة المحتسبة في وقفاتها الشَاموخ المتعددة منذ التقيت قامتها الهيفاء المرهفة والتقيت بعقلها المستنير الوقاد وبقلبها النقي الكبير وبمحياها الصبوح الباسم عام 1982م على أرض كلية الآداب بجامعة الملك سعود إلى اليوم عام 2022م وهي تتماسك بثبات ويقين أمام مصاب جلل يزلزل الجبال بفقدها للفارس البكر من أبنائها.. الشاب باسل بن سليمان السليم أكرمه الله بجواره العظيم وربط على جوارح والدته وأبنائه وأسرته ومحبيه.
وهل هناك ما يزلزل الجبال أشد من فقد فلذة الكبد إلا أن د. نورة الشملان وبكل ما يلم بجسدها وروحها من ألم ممض تقف صامدة رابطة الجأش تلهم أسرتها الصبر وتعلم كل من حولها درساً في كيف ينثني الأحرار على جراحهم وهي تشقهم من الهامة لما تحت الكعب فيتجرعون علقم الفراق بشفاههم المجرحة لا ينبسون بكلمة إلا كلمة الحمد لله، يخبئون الدمع في أعماقهم ويواسون الغير في مصابهم الذاتي وكأنهم نخل لا ينحني إلا للواحد الأحد.
عرفتُ أ. د. نورة بنت صالح الشملان لمدة تمتد لأربعين عاماً عرفتها في ريعان الشباب وعرفتها في أوج الرشد فكانت العالمة المعلمة والباحثة الدقيقة الموضوعية المتفانية المخلصة والصديقة الصدوقة سيدة في العقلانية سيدة في الوجدان سيدة في الوفاء سيدة في اللغة العربية وآدابها كأستاذة متخصصة بجدارة
زاملتها لبضع سنوات في مبنى 3 بكلية الآداب بمقر مركز الدراسات الجامعية للبنات على أرض «حي عليشة» غرب الرياض فشدت انتباهي ببهائها المعرفي في تلك الندوة الأربعائية الأسبوعية التي كانت تقيمها كلية الآداب لمنسوباتها ومنسوبيها من أساتذة وأستاذات دكاترة ومحاضرين من أقسام اللغات والعلوم الاجتماعية والتربية سواء من خلال المحاضرات التي شاركت فيها أكثر من مرة في تلك الندوة أو من خلال مداخلاتها لبعض ما يلقي الزميلات والزملاء من محاضرات وكان منهم د. منصور الحازمي، د. عزت خطاب، د. شكري عياد، د. عبدالله البنيان، د. عبدالله الفيصل الشمري، د. سعد الطخيس , د. سعد البازعي، د. إبتسام صادق، د. حسناء القنيعير، د. فاطمة موسى, د. أهداف سويف، د. ثريا التركي، د. سعاد المانع، د. وسمية المنصور، د. عزيزة النعيم (بعض منا لم يكن حينئذ قد حصل على درجة الدكتوراه). وحقيقة كانت أطروحات د. نورة في تلك الندوات وغيرها محط تقدير وإعجاب من كل من ذكرتُ من الزميلات ومن الزملاء وكل من استمع إليها أو قرأ لها أو عرفها في الجامعة وخارجها. وكان من ملاحظتي لها ومما تعلمت منه عنها أن مكتبها دائماً مفتوح قبلة للطالبات، كما كانت تربطها علاقة أريحية جميلة بالسيدات السعوديات من الطيف الرقيق اللاتي كن يعملن بالجامعة بمسمى «مُراسلات».
غبتُ عن التدريس بالجامعة عدة سنوات فلم يطوني البعد من ذاكرتها الوفية ولم تحرمني د. نورة قط من سؤالها عني في السراء والضراء فكل ظرف مررتُ به كان يعمق تقديري لها ويعمق صداقتنا معاً، من وحشة الغربة لقسوة فقد أخي محمد ورحيل أمي رحمهما الله إلى العلاج من السرطان إلى.. إلى.. إلا وكانت د. نورة حاضرة بجانبي بوجدانها الدافئ وضميرها الحي وقلبها الشجاع. أول مرة دخلتُ بيتها في شدتي كان لقاء بوجود عدد من الزميلات والصديقات على حوار مثمر ونقاش ثر وبحضور الأميرة حصة الشعلان زوجة ولي العهد وقتها
وخرجتُ من ذلك اللقاء ببادرة تعارف ما لبثت أن تحولت إلى بيدر صداقة حيوية وطيدة بيني وبين ابنتها لينا السليم، ولينا أستاذة في حقلين صعبين من حقول الجمال الرباني والإنساني .. حقل النفس السمحة الهادئة المطمئنة وحقل الروح الشغوفة الشفيفة المتسائلة مع بذخ خلاب في تثمين الحياة، لتمتد تلك الصداقة مع د. لميس ومع سارة ومع حصة السليم زوجة ابنها ماجد وكأن صداقة د. نورة الفريدة مع بناتها مطر لا بد أن يعم ماؤه كل من يمر بنهر حنان سخي من حب الناس وعشق الكلمة اسمه نورة الشملان.
وكما صارت الصداقة قاسماً مشتركاً بين قلبين فقد بقيت الثقافة والأدب وحب الوطن الرغيف المشترك واللقمة الحلال التي تحرص دكتورة نورة الشملان على تقاسمها معي ومع عدد لا يحصى من أطياف الثقافة والعلم من داخل المملكة ومن خارجها. ومما جمعني بها من لقاءات ثقافية وعلمية كان مؤتمر الحوار الوطني الثاني عام 2004 الذي كان الأول من نوعه الذي يقام على أرض بلادنا وعلى أرض طيبة الطيبة من بلادنا بالمدينة المنورة ليفتح الحوار في حقوق المرأة السعودية.
وكما كانت دكتورة نورة الشملان ضيفة عزيزة وفعالة بمحاضراتها عن المتنبي وعن أبي تمام وعن قراءاتها لأعمال أدبية وروائية في الملتقى الأحدي الشهري، كانت أيضاً شعلة نشاط بمحاضراتها وفي ندوات دورية كانت تقيمها الأميرة نورة بنت محمد بالقصيم وبالرياض.
هذا وعدا عن إنتاجها العلمي الغزير والمنشور الذي لم يتوقف أثناء عملها بالجامعة ولا بعدها ولن يتوقف أبداً بإذن الله، كان هناك إنتاجها الأدبي الرقراق والمؤثر الذي تجسد في كتابها عن سيرة شريك حياتها د. سليمان السليم رحمه الله وهي سيرة مكتوبة بحبر الحب والعشرة الطيبة وحلاوة الروح وبكفاح الأسر في بداية تأسيسها وبالأمل في اللقاء بعد عمر طويل.
ولكل هذا التبتل المعرفي الذي كان الصاحب الأمين لمسيرة د. نورة كان من الطبيعي أن من يبحث عن دكتورة نورة من طالبات وزميلات قبل وبعد ساعات المحاضرات والساعات المكتبية بالجامعة ويريد أن يجدها فلن يجدها إلا منكبة على الكتب بالمكتبة. فمن النادر ألا تكون د. نورة حاضرة في مكتبة الجامعة معظم أيام الأسبوع بما فيه يوم الخميس يوم كان يوم الخميس هو اليوم الوحيد المتاح لزيارة مكتبة الملك سلمان المكتبة الأم لجامعة الملك سعود
ولا غرو إذن أن آخر لقاء جمعني بدكتورة نورة قبل رحلتي الحالية كان أيضاً في شأن توعوي تثقيفي في الصالون الثقافي (سرلمينا)، (المشتق من أسماء جميلاتها) الذي بادرت بإنشائه بموافقة رسمية وبمجهودها الشخصي وبمساندة بناتها وبعض زميلاتها في شهر مايو 2021م لمواكبة الحراك الثقافي الجاري ولمد التحولات التي يشهدها المجتمع السعودي وخاصة في مجال تمكين المرأة بعمق ثقافي. وقد كان اللقاء في شهر نوفمبر بحضور طيف متعدد لمحاضرة الأميرة عادلة بنت الملك عبدالله رحمه الله بعنوان (تدرجي في العمل الخيري) سبقه محاضرات لتجربة الأميرة موضي بنت الملك خالد بمجلس الشورى وفي مؤسسة الملك خالد للعمل الخيري وتبعه محاضرة قدمتها د. سعاد عامر مؤسسة جمعية زهرة لمكافحة سرطان الثدي.
ولا أنسى أن د. نورة أهدتني رواية الشابة سارة طاهر « أمي صبابة قهوة « بكثير من الاحتفاء والحماس بهذا النوع من الأعمال الأدبية التي تعنى بكتابة التجربة الجارحة المسكوت عنها لحياة الطبقات الرقيقة بالمجتمع.
* * * * * * * * * *
ولا أجد ما أختم به هذه الكتابة المبرحة إلا رسالة الدكتورة نورة في ردها الكريم على تعزيتي وردي الخجول:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الأخت الغالية جداً الدكتورة فوزية التي يعجز القلم عن التعبير عما تركته كلماتها الصادقة من أثر في نفسي، إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ .
قدّر الله وما شاء فعل.
أبتهل إلى المولى القدير أن يكتبني في صحيفة الصابرين المحتسبين، الذين يحمدون الله في السراء والضراء، وأن يرحم حبيبي باسل بواسع رحمته ويبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله، وأن يجمعنا به في جنة الخلد التي لا يحول نعيمها ولا يزول.
ممتنة لمشاركتي في الحزن والدعاء، داعية المولى القدير أن لا يريك مكروهاً في عزيز، وأن يحرس لكم من تحبون بعينه التي لا تنام وقوته التي لا ترام،
ويرزقنا جميعاً اليقين والإيمان أن لا بقاء إلا لوجهه الكريم.
محبتك نورة الشملان.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
العزيزة الغالية د. نورة
لا يعلم إلا الله كم نزلت كلماتك برداً وسلاماً على قلبي القلق في البعد عليك وعلى أسرتك فإذا بك في كل حرف كتبته يدك تعلمينني وتعلمين العالم كيف ينثني الأحرار على جراحهم.
يكفكفون الدمع الغزير الحار، ويحزمون كسور أجنحتهم بحرير الدعاء وحبل اليقين.
أيتها المبصرة الملهمة المتسامية الثابتة المحتسبة حفظك الرحمن أستاذة وحياة للحياة.