د. عيد بن مسعود الجهني
النفط.. هذه السلعة السحرية، الأغلى والأهم في تاريخ البشرية، ميلاد تسعيرها كان عام 1860 بعد أن سجل عام 1859 تاريخ اكتشافها، بقيت رحلة أسعارها هادئة إلى حد كبير في ذلك القرن.
وخلال القرن المنصرم بأحداثه وكوارثه الجسام كان سلاحاً ماضياً في حسم تلك الحرب وإدارة الصراع لصالح الحلفاء هو (النفط) الذي حسم الحرب المدمرة الثانية التي اعتمدت على النفط الأمريكي في نحو 90 في المئة من احتياجاتها.
هذا النفط رئة العالم تنقله ناقلات النفط العملاقة وخطوط الأنابيب والشاحنات والقطارات.. الخ، إلى كل أنحاء العالم لدفع عجلة الاقتصاد الدولي، وكل تطور في صناعة النفط ينعكس أثره إيجابا على رفاه العالم وعلى التبادل التجاري والاستثماري بين منظومة المجموعة الدولية.
ومن يتابع تحركات أسعار النفط هبوطا وارتفاعا يخرج بنتيجة مؤداها ان لتلك الأسعار ارتباطاً وثيقاً خاصة فيما يتعلق بصعود أسعارها في النزاعات والصراعات والحروب، فقد كانت قبل حرب رمضان المبارك أكتوبر 1973 مياه تلك الأسعار راكدة تدور فيما بين (1.8) و(2) دولار أمريكي، وفور هبوب عاصفة تلك الحرب قفز سعر برميل النفط إلى (5.11) دولار للبرميل.
ليس هذا فحسب فقد استمر الصعود ليبلغ (11) دولارا، ومع ثورة الخميني واندلاع الحرب الإيرانية - العراقية بلغ السعر بين (39) و(40) دولارا عام 1981 ولم يوقف زحف تلك الأسعار إلى أعلى حتى توقفت تلك الحرب المدمرة.
ومع إخماد نيران الحرب عاد الهدوء الكبير إلى الأسعار لتبلغ في منتصف الثمانينيات (7) دولارات، واستمر هذا السكون في الأسعار المتدنية جدا الذي انعكس على إنتاج الأوبك ليبلغ (14) مليون ب/ي، حتى بزغت شمس حرب العراق على دولة الكويت الشقيقة في الثالث من أغسطس 1990.
هنا توفر سبب رفع الأسعار لرأسها لتبلغ (29) دولاراً قبل أن تتدنى إلى (22) دولاراً بعد أن استخدمت الإدارة الأمريكية سلاح المخزون الاستراتيجي النفطي، لكن الأوبك في تلك الفترة من تاريخ النفط رغم أنها كانت تدير سوق النفط الدولية إلى حد كبير لوحدها لملمت صفوفها لتبقي السعر ما بين 22 - 28 دولاراً بعد أن انخفض في أواخر 1998 إلى (10) دولارات.
وقد استمرت الأوبك تدافع بشراسة عن هذا السعر، حتى جاء ذلك اليوم الأسود في تاريخ المنطقة العربية عندما احتلت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها بريطانيا ومن دخل في ذلك الحلف بلاد الرافدين ليتحقق السبب الرئيس في ارتفاع الأسعار لتبلغ الثريا، فالعراق صاحب احتياطي نفطي كبير (147) مليار برميل وإنتاجه رغم الحظر كان له تأثيره المباشر في سوق النفط الدولية.
وبمجرد ذلك الاحتلال استمرت الأسعار بالصعود في أوائل عام 2008 ليسجل سعر برميل النفط (147.10) دولار عندما اشترى احد المغامرين (1000) برميل ليرتفع السعر.
لكن قطار الأسعار الذي كان يسير من محطة إلى أخرى مسجلا ارتفاعات متتالية توقف في نفس العام عندما انهار أكبر بنك عقاري (ليمان براذرز) في بلاد العم سام ليسبب ذعرا اقتصادياً كبيراً انعكس أثره على أسعار النفط لتنهار في الآخر سريعا لتبلغ (33) دولاراً قبل أن تشمر الأوبك عن سواعدها ولتنظم صفوفها دفاعا عن الأسعار، وبالفعل استطاعت أن تحقق سعرا عادلا لنفوطها استقر ما بين (65) و(75) دولارا للبرميل.
لكن دوام الحال من المحال، وهذه المرة ارتفاع الأسعار جاء سببه ما سمي بالربيع العربي الذي انقلب إلى خريف عربي، فمع بروز تلك الأحداث في بعض الدول عربية بعضها منتج للنفط كليبيا صاحبة النفط عالي الجودة، أخذت سفينة الأسعار طريقها إلى الصعود لتبلغ (128) دولاراً، وهذا سعر لم تكن الأوبك تنتظره في تلك الفترة من تاريخ الأسعار، لكن تكرر هذا السعر تقريبا مع تشديد العقوبات الاقتصادية على إيران بسبب ملفها النووي.
ومع عودة الأسعار إلى مستويات متدنية قياسا بالأسعار السابقة، وثقت الأوبك علاقاتها مع دول منتجة للنفط خارجها كروسيا والنرويج والمكسيك، لتكون حلفا نفطيا قويا استطاع أن يحافظ على أسعار عادلة حتى هبوب جائحة كورونا التي قذفت بالأسعار لتبلغ (الصفر)، لكن الحلف القوي عاد ليكافح عن سلعته الإستراتيجية وينتشلها من السقوط إلى بر الأمان لتستمر الأسعار في التحسن المستمر لتبلغ قبل الغزو الروسي (عضو الحلف النفطي) البالغ إنتاجه (10) ملايين ب/ي دولة أوكرانيا (86) دولارا.
ولأن الحرب عامل رئيس في حركة مكنة الأسعار فكأن التاريخ النفطي يعيد نفسه فغزو العراق (قذف) بالأسعار بعد سلسلة من الارتفاعات حاجز (147) دولارا، فان القرار الروسي بشن حرب نارية على أوكرانيا دفع الأسعار بشكل (صاروخي) لتبلغ (111) دولارا بل كسرت حاجز 119 دولار حتى كتابة هذا المقال وقد تتخطى ذلك الرقم إذا طال أمد الحرب.
ولأن وكالة الطاقة الدولية ممثلة الدول الصناعية المستهلك الرئيسي للنفط تظل جاهزة لحماية مصالح دولها فهي لم تتأخر فقد أقدمت على شهر سلاح المخزون النفطي فقدمت لسوق النفط الدولية (60) مليون برميل، وهذا رقم يمثل أقل من ثلثي الإنتاج اليومي العالمي وأثره لن يكون كبيرا على زحف الأسعار إلى أعلى.
وعلى الجانب الآخر فان السوق لا تعاني من نقص في المعروض من براميل النفط، بل إنها تشهد فائضا منه، ولذلك فإن الأوبك وأعضاء حلفها النفطي استمروا في ضخ المزيد من النفط، فالسوق استقبلت (400) ألف برميل جديدة تضاف إلى الإمدادات الحالية في سوق النفط الدولية.
إن مربط الفرس الذي قد يغير في مسيرة وإنتاج وأسعار النفط، يتمثل في توسيع العقوبات المشددة على روسيا لتشمل النفط، فإذا حدث هذا فان المعادلة ستتغير وسيصبح السوق بحاجة إلى براميل نفط بديلة والأسعار هي الأخرى لن تتوقف عن مسيرة الارتفاع غير المحسوب.
وإذا كانت القارة الأوروبية وقعت على أرضها حربان كونيتان في القرن المنصرم أكلت الأخضر واليابس، وها هي تشهد الاتحاد الروسي يغزو جارته أوكرانيا، فإن الاتحاد الأوروبي وهو يشهد يوما أسود في تاريخه قد توحد على مستوى البرلمانات والقيادات ضد (الهجمة) الروسية بعيدا عن (الانشطار) إلى محورين متحاربين وبهذا قللت أوروبا وأمريكا من إمكانية حرب كونية ثالثة قد تفني البشر والحجر.
وإذا كانت الحروب (مكروهة) فهي ضد السلم والعدل الدوليين والقانون الدولي والإنساني وميثاق الأمم المتحدة، إلا أنها بالنسبة للنفط تعد (ذهبية) ترفع أسعاره لتمثل سنوات الحروب في عمر النفط دولارات تهبط على الدول المنتجة لتمثل سنوات سمان من نعمة النفط صاحب الأيادي البيضاء.