د. محمد بن إبراهيم الملحم
مناقشتي لدور المدرسة السلبي في بعث العلماء وخلق جو يساعد على تكوين «العالم» في نفس الطالب، لا تعني التطرف في النظرة إلى مفهوم المدرسة ونفيها نفياً قاطعاً، فهناك مدارس نجحت في رعاية الطلاب بطريقة تؤهلهم للإبداع كما أسلفت، حينما وضحت وجود عدد نادر من المدارس الخاصة التي نجحت في ذلك، وكذلك مدارس حكومية في بعض دول رفاهية المواطن، بالإضافة إلى ذلك فإن القدرة البشرية تفوق التصور؛ فعلى الرغم من ظروف بيئة المدرسة «النمطية» التي تميل إلى خفت الإبداع، إلا أن كثيراً من الطلاب كانوا من القوة والصمود أمام هذا الواقع، بما مكنهم من التغلب عليه، والتماشي معه، بينما هم يؤسسون شخصيتهم العلمية الابتكارية المبدعة بعيداً عن جو المدرسة، وبدون شك فإن مثل هذه الحالة لا بد لها من بيئة موازية للمدرسة تحقق الرعاية والدعم، وقد تكون نادياً أو جمعية أو أي مؤسسة مجتمعية يرتادها الطالب بشكل مستمر، ولكن من دون شك فإنها قد تكون البيت أيضاً، وهي البيئة الموازية الأقوى في هذه الحالة، وأفضل مثال نقدمه هنا هو الأمريكي بيل جيتس Bill Gates مؤسس شركة مايكروسوفت Microsoft ومبتكر نظام دوس DOS، أساس ما يعرف اليوم بأنظمة ميكروسوفت وبرامجها، (وبالمناسبة فإن نظام دوس هذا لا يزال هو الذي يدير جهاز كمبيوترك، لكن في الخلفية من دون أن تتعامل معه كما كنا نتعامل معه في السبعينيات والثمانينيات الميلادية بداية إطلاقه)، فإن بيل جيتس الطالب كان يتمتع بوالدين مهتمين بتعليمه ورعايته، فأبوه محام بارز، وأمه تملك منصباً إدارياً في الجامعة، وعضو بارز في مجالس محلية، وهي التي ساعدته مالياً لإنشاء أول بذرة لشركته، عندما كان طالباً في الجامعة، ليتمكن من عقد صفقات مع شركات الكمبيوتر -آنذاك- ويبيعها منتجاته من نظم التشغيل ومترجمات اللغات التي طورها، ولا ننسى أيضاً دور رعاية والديه بإلحاقه بمدرسة أهلية متميزة، تمكنت من توفير حاسب آلي لطلابها في نهاية الستينيات الميلادية، حينما كانت الحواسيب ضخمة ومكلفة جداً، حيث كان لهذا الأمر أثره الكبير على بداية تعلق بيل جيتس الطفل ذي الاثني عشر عاماً بالكمبيوتر وبرمجته منذ تلك السن الصغيرة، لتنمو هذه الهواية وتتطور وتسفر عن تمكنه من بيع أول منتج له؛ وهو لغة برمجة لأول جهاز حاسوب تجاري بمعالج 8080، بينما كان طالباً في الجامعة.
مثال آخر الفيزيائي الألماني الكبير ماكس بلانك Max Planck الحائز على جائزة نوبل 1918 لإسهامه المهم في ابتكار نظرية الكم الثورية في عالم الفيزياء، كما أنه فسر نظرياً بنجاح النتائج التجريبية لإشعاع الجسم الأسود Black Body Radiation، هذا الألماني الموهوب حاز على عناية معلم رياضيات في مدرسته كان يهتم بالموهوبين ويرعاهم، فتولى تدريسه الرياضيات والفلك وفيزياء الميكانيك، مما قدح عبقرية هذا الشاب ليختار بعدئذ التخصص الجامعي في الفيزياء بدلاً من الموسيقى، والتي كان يعشقها ويبدع فيها بشكل مميز، الأمر الذي وفر لخدمة البشرية هذا العقل الاستثنائي.
فيزيائي آخر هو الدنماركي نيلز بور Niels Bohr الذي اقترح هيكل الذرة الصحيح، ولذلك سمي بأبي الذرة، كما أنه أسهم في تطوير فيزياء الكم، هذا الرجل كان لأبيه فضل في تشجيعه ومساعدته على البدء بأولى تجاربه، وذلك عندما كان نيلز طالباً بقسم الفيزياء، بينما لا يتوافر بالجامعة معمل فيزياء، ولأن أباه أستاذ فسيولوجي في الجامعة، فقد مكنه من استخدام المختبر الخاص به لإجراء تجربته حول قياس الشد السطحي للسوائل، محققاً من خلالها تصوراً جديداً لمعالجة هذا الموضوع.
باختصار يا سادتي الكرام، فإن المدرسة أو الجامعة أو أية مؤسسة رسمية، بطريقتها المعتادة التقليدية، لن تخرج علماء، ولكن إذا ما توافرت بها درجة خاصة من الرعاية والاهتمام، أو توافر للطالب من يرعاه ويعوضه فقد هذا الجو في المدرسة، فيوفر له كل الظروف للنماء والإبداع، فسوف يظهر العالم.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً