أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: إنَّ لِيْ عنايةٌ بالأنساب، دافعها المحبة للغتي التي رضعتُ بيانها، وحباً لتاريخ الإسلام الذي قاده كلُّ معمم كريمُ المحتَّد، وأنفةً من كل أغلفٍ أو ذي زِنَّار يجحد أمتنا فضائلها بعد أنْ قدر على هزيمتها عسكرياً.. وبحول الله تعالى فلن تطول هزيمة خير أمة أخرجت للناس، ومع الجحد يأتي الافتراء، وتكريس الهزيمة في عقول ناشئتنا: بأنه لا وظيفة للعربي إلَّا أنَّ يتقمَّل في خِدْرِ بيته!.. ولقد كذبوا وخسئوا؛ فقد أبدت الأيام أنَّ العربي الذي كان فارساً برمحه وسيفه كان فارساً بقلمه.. مع أنَّ المدة الزمنية الكائنة بين جاهليته وسموقه التاريخي لم تتجاوز عمر رسول الله -صلى الله وعليه وسلم- منذ بعثته.. وما بين جاهلية العربي وتدوينه العلم وتأصيله الأصول لا تتجاوز قرناً ونصف قرن، وما بين جاهليته وسموقه العلمي وامتصاصه معارف الأمم لا تتجاوز ثلاثة قرون.. وعربي اليوم هو عربي الأمس في ذكائه ونبله؛ وإنَّما استبدل زِيًّا بزي، ولغةً فصيحةً سليقيةً بلهجاتٍ عامية.. والأمة العربية اليوم ذات وحدة مكانية لا يداخلها خليط فيما بين بحار الجزيرة العربية الثلاثة إلى سواد العراق شمالاً وما يحاذيه من بلاد الشام.. وتدفقت هجراتهم في مختلف الآفاق، وارتسمت باسمهم آفاق وأقطار، وذاب بعضهم في بلاد الأعاجم.. وتحسبهم في جزيرتهم أجناساً؛ لاختلاف أزيائهم، ولهجاتهم، وكثرة الحروف الفرعية في حديثهم بعد السليقة.. وليسوا سوى سحنات يعربية في أُهُبٍ طرَّزتها غضارة العصر ونضارته؛ ولكن تبقى الخضرة اليعربية المليحة كما قال الفضل اللهبي:
وأنا الأخضر من يعرفني
أخضر الجلدة في بيت
من يساجلني يساجل ماجداً
يَمْلأُ الدلو إلى عقد الكرب
قال أبو عبدالرحمن: للعرب فضلٌ ذاتيٌّ، وتقدير شرعي عكَّر عليهما عصبية مُسْرِفة من العرب أنفسهم، وردُّ فعلٍ من الشعوبيين والمستشرقين حسداً لهم على خصائِصهم، وبغضاً لدينهم الناسخ المهيمن.. والانتماء العربي ليس رسم مشجرات الحقيقة فيها كحجة نحوي!.. وأحدث هذه المشجرات سوء الفهم لنشر تراث العروبة الذي اضطلع به شيخنا (حمد الجاسر) رحمه الله تعالى، وحضور مجلته (مجلة العرب)، وكتابه (جمهرة أنساب الأسر المتحضرة)، ونشوب المثاقفة الساذجة بين العوام لا سيما الشعراء منهم؛ فقد أحدث مباهاة ومفاخرة بالأصول القديمة التي ينتسبُ إليها كثير من الخَلَفِ إجمالاً، وكثرت براويز المشجرات في المجالس، وبعض تلك المشجرات يتسلسل من ابن مسمى إلى ابن مسمى حتى يصل إلى إسماعيل، أو هود إلى آدم عليهم السلام!!، وصاحب مجلة العرب لا يريد غير ربط الأمة بتاريخها.
قال أبو عبدالرحمن: لو كنتُ من قريش في الذروة ما رضيت بمثل هذا التفاخر الذي يقسم الأمة، ويسلمها للريح باستحياء العظم الرميم؛ فكيف أُنَمِّي هذا بمؤلفاتي في أخبار القبائل وأنسابها؟!.. ومن جانبٍ آخر أشعرُ بضرورة حقِّ العرب المسلمين، وأنهم ذوو فضلٍ ذاتيٍّ زكَّاه الإسلام، وأنْ ربط حاضرهم بطيبات تاريخهم واجبٌ في حُمَّى كيدٍ أجنبيٍّ: يجحدُ العرب موهبتها، ويشككُ في سلامة عنصرها، ويكابر في حقيقة خصائصها الفطرية أو يُهوِّن من ذلك.. وعقيدتي أنَّ العرب مادَّة الإسلام، وأنَّ الوفاءَ لحقهم التاريخي، وتركتهم من الرقعة، وشرط وجودهم المتميز؛ وهو الإسلام والفصحى: واجبٌ يفرضه ديني.. وعقيدتي أيضاً أنَّ العروبة دينٌ إسلاميٌّ، ولغةٌ عربية، ونشأةٌ وانتماءٌ عربيٌّ، واقتداءٌ بأهل العروبة بشرطها الإسلامي.
وهجاءُ مفكري الصهيونية والصليبية لأمتنا عرقاً وموهبة وتاريخاً ولغة وديناً وتركة دليلُ نجابة الأمة العربية؛ لأنه من صدور ضيقة سافرة العداء بمقتضى ما أبرمه الله بقدره الكوني من جعل البشر مللاً ونحلاً متشاجرة؛ ليميِّز الله الخبيث من الطيب كمن اختار حزب الله، وأحكم عقيدة الولاء والبراء من أجل دين الله.. ويُنطق الله ألسنة المنصفين بالحق في أمتنا؛ فيكون ذلك دليلاً آخر على بَهَرِ الحق الذي أنطق بفضل أمتنا من لا يريد لها خيراً.. وما أكثر كلام هؤلاء المنصفين!.. وعلى سبيل المثال قال (زابور وريسكي): ((إنَّ الجنس العربي مجمع عليه بأنه من أشرف الأجناس البشرية، ونحن معجبون كغيرنا من الباحثين بعظمته وسمو استعداده، كعزَّة النفس وغيرها)).. وقال (لوثروب ستودارد): ((كان العرب في عصر صاحب الرسالة [صلى الله عليه وسلم] أمة كريمة الأخلاق، سليمة الطباع، نيِّرة السجايا، مقاديم يركبون كل صعب، تحرِّكهم روح الرسالة بغاية غاياتها، وتبعث فيهم عزماً شديداً وغيرة متوقدة.. كانوا أشداء العصبية الدينية؛ وهي العصبية المعروفة في كل جيل من الأجيال السامية؛ وعلى شدة هذه العصبية فإنهم لم يكونوا فيها على غير هدى؛ بل كانوا مستبصرين يستنيرون بنور العقل وهدايته، ومتمسكين تمسكاً شديداً بمعتقدات دينهم وأركانه وأصوله))؛ فإلى لقاءٍ قريب إنْ شاءَ الله تعالى، والله المستعان.
** **
(محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين