د. عبدالحق عزوزي
تتقاسم أوكرانيا حدودًا مع أربع دول أعضاء في الحلف الأطلسي كانت سابقًا جزءًا من الاتحاد السوفياتي التي لا يخفي بوتين حنينه إليها. وبعدما امتصت روسيا بيلاروسيا وتدخلت في أوكرانيا، هناك سؤال يطرحه العديد من المتتبعين والخبراء: هل تتجه أنظار الرئيس بوتين نحو مولدافيا، الدولة الصغيرة الواقعة بين أوكرانيا ورومانيا، وصولا ربما إلى جورجيا على الساحل الشرقي للبحر الأسود؟ موسكو قد تحاول إسقاط التوازنات الأمنية الأوروبية والأطلسية من خلال إثارة حوادث على حدود أوروبا أو ربما من خلال هجمات إلكترونية واسعة النقاط وهي تجيد القيام بذلك؛ لكن يقيني أن روسيا لن تجرؤ على تحدي الحلف الأطلسي والمادة الخامسة من ميثاقه التي تنص على مبدأ الدفاع المشترك في حال تعرض أحد الأعضاء لهجوم.. فهاته المسألة غير مرجحة كثيرا على ضوء حرص الطرفين الشديد على تفاديه..
المهم أنه مع التدخل الروسي في أوكرانيا أصبحنا في حقبة جديدة، ومع هزيمة روسيا لأوكرانيا سيؤدي ذلك إلى تغيرات جيوسياسية واسعة في أوروبا وفي أهداف حلف الناتو والنظام العالمي القائم، ولربما في بداية حقبة قد تسيطر فيها الصين على تايوان وجنوب شرق آسيا وخلق ثلاث كتل في العالم «أمريكية وروسية وصينية» إلا أنه قد تعم الفوضى والصراع العالميين، حيث ستتكيف كل منطقة في العالم بشكل متزعزع مع التكوين الجديد للقوة..
ومع بداية التدخل الروسي في أوكرانيا، بدأت تظهر للعالم وبخاصة للأوروبيين قيمة السلم والسلام، وقيمة بعض الدول المصدرة للقمح والغاز والبترول، وقيمة بعض المناطق الجغرافية كالبحر الأسود الذي يُعد شريانًا رئيسًا لحركة السلع عند مفترق طرق أوروبا وآسيا؛ إذ تطل ست دول على البحر الأسود، إلا أنه يمثل أهمية بالغة للعديد من البلدان الأخرى وراء حدودها، بسبب تجارة الطاقة والصلب والمنتجات الزراعية؛ كما تمر منتجات النفط الخام والمكرر من روسيا وأذربيجان وكازاخستان عبر موانئ التصدير على الحافة الشرقية للبحر الأسود..
كما سمح «التهديد الروسي» أيضا بنظرة أوروبية جدية تجاه أمنها العسكري الداخلي واستثمارها في هذا المجال والذي كان محطة انتقادات لا متناهية من عند الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب؛ ففي هذا المنحى مثلا قررت ألمانيا مراجعة تاريخية لسياستها الدفاعية.. فإضافة إلى رصد ميزانية 100 مليار يورو ستنفق على قطاع الدفاع، ستخصص برلين من الآن حتى 2024 أكثر من 2 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي لجيشها.
كما تواجه منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، التي اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 2019 أنها دخلت في «حالة موت دماغي»، تحديًا أوروبيًا جديدًا.. ففنلندا والسويد، الدولتان غير المنتسبتين تاريخيا إلى الناتو، تراجعتا لأول مرة عن رفضهما الانضمام إلى المنظمة. هذا الإعلان غير المسبوق، يؤكد الدور المركزي الذي بات يلعبه الناتو في الأزمة الأوكرانية؛ كما قرر الأمين العام لحلف الناتو ينس ستونتلبرج لأول مرة نشر قوات التدخل السريع للدفاع عن الحدود الشرقية للحلف.. وهذه الوحدة المشتركة باتت عمليا على الميدان منذ 2004 وهي تضم في صفوفها 40 ألف عسكري لم يتم نشرها لحد اليوم سوى في حالة وقوع كارثة طبيعية أو لتنسيق الانسحاب من أفغانستان في 2021. ضمن هذا السياق، من المنتظر نشر 500 جندي فرنسي في رومانيا حيث تتواجد القاعدة الأساسية للناتو، إضافة إلى إرسال كتائب مكونة من 1000 جندي من دول مختلفة لدعم صفوف قوة الردع في بولونيا ودول البلطيق..
وتطالب أوكرانيا حلف شمال الأطلسي منذ عدة أيام بإقامة منطقة حظر طيران في أوكرانيا، لكن رفضت الدول الأعضاء في الحلف هذا الطلب، لتجنب التورط في النزاع.. فإنشاء منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا قد يؤدي إلى دخول الناتو في صراع مفتوح مع روسيا؛ وإذا قام الحلف بذلك، سينتهي الأمر بأعضائه في وضع خطير قد يفضي إلى حرب شاملة في أوروبا، تتورّط فيها العديد من الدول الأخرى..
وفي الختام، إن أوروبا الخائفة التي كانت تخشى منذ سنوات من أن تتخلى عنها الولايات المتحدة داخل «الناتو» بدت في أمس الحاجة إلى دعمها وهي ما زالت غير مطمئنة بشكل كامل إلا في حال أثبتت الولايات المتحدة إخلاصها عبر الدفاع عنها في حال النزاع المسلح..