د.محمد بن عبدالرحمن البشر
رحلة العلم الألماني نيبور إلى الاسكندرية عام 1761 ميلادية، والذي سافر في بعثة علمية مكونة من خمسة أشخاص بأمر من الملك الدنماركي، ووصل إلى هناك، بعد أن حل بعدد من المحطات، وعانى من بعض المشاكل التي واجهته في رحلته تلك، لا شك أن ذلك يمكن فهمه بسبب محدودية الامكانيات المتاحة في ذلك الوقت.
من البديهي أن هؤلاء العلماء المتخصصين لابد أنهم قد جمعوا ما استطاعوا من معلومات، وما أمكنهم قراءته من الكتب ليكون لديهم إلمام بالبلاد التي سوف يقومون بزيارتها، لقد قرؤوا بعض الكتب اليونانية واللاتينية التي كانت تتغنى بتاريخ الاسكندرية العظيم وجمالها وبهائها ومكتبتها التي احترقت فيما بعد، وأيضا مبانيها، ومعالمها ومناظرها الخلابة، وأيضا مهارات شعبها، كانت تلك الصورة قد رسمت في ذهن ذلك الوفد الذي ذهب إلى هناك، ولا شك ان الوفد يعلم أن ذلك الوقت قد مضى، وأن ما بناه الاسكندر، والبطالمة، والرومان، و المسلمون، لا بد له من أثر باق حتى وإن ذهب جله، فسيبقى ما يدل عليه.بعد ان انتهوا من تأمين المأوى، والمأكل، والمشرب، والكساء، أخذوا يجوبون شوارع المدينة ويدونون ملاحظاتهم، كل فيما يخصه، ويبدو ان الصورة الذهنية التي قد رسموها قبل وصولهم، والمقارنة مع ما هو في أوروبا وما وجدوه، خيب آمالهم، وقد ذكر فيما ذكر: لقد هبطت من عليائها إلى الحضيض، تناثرت بقايا الابنية من مساجد وكنائس ومعابد، وغيرها، ولم يبق منها سوى الاطلال، وقد احاطت بها النخيل التي منحتها شيئاً من الجمال.
وصب جام غضبه على المسلمين، والاسكندريين بالذات، ورأى انهم لا يتركون من جمال حضارتهم شيئاً، فهم يكسرون الأعمدة، وجدران المباني القديمة الجميلة ويستخدموها في أبنيتهم الرديئة، وحتى الاسوار فانهم يقتلعونها لاتمام بناياتهم الهزيلة، وذكر أنهم يكسرون النصب والصروح ويستخدمونها في مبانيهم الكريهة، والمقززة وإذا وجدت أجمل الاعمدة في حديقة قصر، حولوها إلى طاحونة يستخدمونها في طحن ما لديهم من طعام رديء، لكن هناك بقايا من ذلك الجمال الذي تركه الاجداد مثل مظلة كليوباترا التي عليها بعض الرسوم الفرعونية، وعمود بومباي، لانه قد شيد من الجرانيت الاحمر الذي يصعب عليهم تكسيره والاستفادة منه.
لم يأخذ هذا الرحالة بعين الاعتبار أن الدولة العثمانية التي كانت مسيطرة على العالم الإسلامي أجمع، في تلك الفترة، قد بدأت في فقد مكانتها منذ قرنين مضت، وأن أوروبا قد تجاوزت القرون المظلمة منذ قرنين أيضا، وبدأت في فترة الخطوات العلمية التي جعلتها أكثر تقدماً وقوة، ولهذا فإن النظر بعين واحدة لما هو موجود في أوروبا، وما هو موجود في العالم الإسلامي في تلك الفترة، مجانب للصواب، ويمكننا أن تنظر بعيدا إلى تلك الفترة التي كانت فيها الحضارة الإسلامية مزدهرة في الأندلس، وأن المجموعات القادمة من الشمال الأوربي كانت عبارة عن مجموعات غازية تأتي من خلال البحر على مراكبها للسلب والنهب لتحصل على قوتها وما تحتاجه من كساء، ثم تعود أدراجها لشح انتاج ارضهم وعدم معرفتهم باساليب الزراعة.
ويذكر أن أجمل ما رأى في مدينة الاسكندرية في ذلك الوقت، هو ذلك المسجد الرائع الجميل الذي يقوم على أعمدة مزخرفة، وألوان زاهية، وبه مجلدات من المخطوطات اليونانية التي تم الاحتفاظ بها في المسجد، كما يذكر وجود كنيسة القسيس الإنجيلي مرقص، وقد تعرضت لهجمات من الكاثوليكيين الذين أرادوا أن يسرقوا رفات القسيس مرقص، وادعوا أنهم قد دخلوا إلى الكنيسة فعلا وقطعوا خلسة جثة القسيس، واستطاعوا أن يخرجوها على شكل قطع صغيرة على أنها لحم خنزير ليظللوا بذلك موظفي الجمارك الاتراك المسلمين الذين يحرمون لحم الخنزير.
نقل لنا معركة شاهدها بنفسه في أحد شوارع الاسكندرية حيث قدمت مجموعة من البدو، وخيمت بقرب المدينة، ثم أخذت في التسلل رويدا رويدا إلى إحدى الشوارع، ثم أطلق أحدهم البارود عند إحدى المباني، وحدث شجار بين صاحب المبنى والبدوي، فخرج السكان لنصرة صاحب الدار، وأيضاً وقفت المجموعات البدوية مع رفيقهم، وأخذ البعض يرمي على الاخر بالحجارة في بادئ الأمر، ثم تحول إلى استخدام البارود، وبعد فترة ووفاة عدد من الطرفين، اتفق شيخ القبيلة مع السكان فغادروا إلى خيامهم.
ربما يكون مصيباً فيما ذكر عن وضع الإسكندرية في ذلك الوقت، لكن ذلك ناجم من الوضع الإداري والاقتصادي والسياسي الذي كان سائداً في ذلك الزمان في سائر المشرق.