د.سهام صالح العبودي
لم تفصح (فرجينيا وولف) عن اقتراحاتها في (لعبة تخمين الكلمات الممحوَّة) التي مارستها على قصيدة (لايسيدس)، القصيدة التي تقول عنها – متداعيةً – في كتابها (غرفة تخصُّ المرءَ وحدَه): «وكتب لامب عن صدمته عندما علم أنَّ كلمات القصيدة قد بُدِّلت قبل أن تصل إلى شكلها الذي عرفه. لقد بدت له فكرة أن يكون ميلتون قد قام بتغيير الكلمات في القصيدة نوعًا من انتهاك لحرمة المقدَّسات. وقادني ذلك الخاطر إلى تذكُّر القصيدة وأن أتسلَّى بتخمين الكلمات التي استبدلها ميلتون بأخرى!»(1).
كان اكتشاف مسوَّدات قصيدة (الأرض اليباب) لإليوت حدثًا أدبيًّا مهمًّا، ولم يخفِ (عزرا باوند) حقيقة ما تمثِّله مسوَّدات القصيدة، وهي القصيدة التي راجع نسختها الأولى، وتركت مراجعته آثارًا مهمَّة فيها، وهي آثارٌ استعرضها د.عبدالواحد لؤلؤة في كتاب (الأرض اليباب: الشاعر والقصيدة). ينقل لؤلؤة عن (عزرا) قوله: «كلَّما زاد ما نعرفه عن إليوت، كان ذلك أفضل.. أنا سعيد أنَّ المخطوطة قد وُجدت»(2).
وعندما سُئل إليوت – الذي أسعده اختفاء هذه المخطوطة كما نقل لؤلؤة – عن المخطوط الأصلي غير المعدَّل قال: ”لا تسألني، هذه أحد الأمور التي لا أعرفها. إنِّه لغز غير محلول. لقد بعته إلى جون كوين»(3).
هذا اللغز الذي ظهر للعلن نُظِر إليه بوصفه كنزًا أدبيًّا ومعرفيًّا، تُرى فيه القصيدة في صيغتها الأولى، ويُرى فيها عقل الشاعر وهو يعمل: مراودة المعنى للكلمات، ومطاردة الصيغة المثلى، اللحظات التي يظهر الشاعر فيها ماحيًا نفسه – أو ممحوًّا بغيره – متحوِّلًا عن كلمة أو فكرة. ولسبب ما تبدو هذه التحوُّلات مادة ثمينة، وقبلة فضول.
في التراث الأدبيِّ العربيِّ كانت (الحوليَّات) نموذجًا لتحوُّلات النصِّ، وممحوِّاته ومثبَتَاته، ولم يتجاوز نقَّاد العربيَّة تلك الحالة الإبداعيَّة الفريدة، فوقفوا عندها: تأمُّلًا، وتعليلًا، واستنطاقًا لمدلولاتها؛ فيقول ابن رشيق عن زهير: «حتى صنع زهير الحوليَّات على وجه التنقيح والتثقيف: يصنع القصيدة ثم يكرِّر نظره فيها؛ خوفًا من التعقُّب بعد أن يكون قد فرغ من عملها في ساعة أو ليلة، وربما رصد أوقاتَ نشاطه فتباطأ عمله لذلك»(4)، ويرى الجاحظ أنَّ تلك المراجعات الكثيفة ما هي إلَّا حالة من التباطؤ المتحرِّز عن وقوع في زلل، ونوع من المحاكمة الذاتيَّة للإبداع، فيرى أنَّ الشاعر يلجأ لتكرار المراجعة: «اتهامًا لعقله، وتتبُّعًا على نفسه، فيجعل عقله زِمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره؛ إشفاقا على أدبه، وإحرازًا لما خوَّله الله تعالى من نِعمته»(5).
الكتابة الإبداعيَّة واحدة من أعقد عمليَّات العقل؛ فما يُستحضر في العقل لاختراع جملة واحدة، أو لترتيب كناية، أو لقطع الطريق من المباشرة إلى المجاز هو جهدٌ هائل، ومكابدة لا نهائيَّة يوميَّة في معمل خفيٍّ؛ فلا عجب إن عُدَّ اكتشاف مسوَّدة عمل أدبيٍّ حدثًا ذا بال؛ فهو فرصة نادرة للإطلال على حالة التحوُّل المحمومة تلك، على النصوص في حالتها الخطِّية الأولى، في مبتدأ الإنشاء قبل تحوُّلاته ومراجعاته، ومحاولة اكتشاف الأسباب التي تجعل المبدع يتزحَّل عن صورة كتابيَّة إلى أخرى.
إعادة قراءة الأديب نصَّه هي محور هائل من محاور الكتابة، تتضمَّن التجويد: عبر المحو والإثبات؛ لاستحضار معنى، وتقديمه في كسوة لائقة من الكلمات؛ وقد يتضمَّن – في كثير من الأحوال – مقاومة الصيغة الفرديَّة للأفكار والصياغات، والانضواء تحت تقاليد الفنِّ من أجل تحقيق القبول، ولو أنَّ تلك الممحوَّات الهائلة عادت بمعجزةٍ ما لظهر لنا: كيف أنَّ قتل صورة مبتكرة كان أهون بكثير على المبدع من مجابهة غضب النسق المهيمن، وأنَّ ذلك الممحوَّ – ويا للغرابة – كان ممحوًا يكفل الظهور!
في كتابه (آليات الكتابة السرديَّة) ينقل (إيكو) عن (لامارتين) أنَّه قد كتب واحدة من أشهر قصائده «دفعة واحدة، في ليلة عاصفة وسط غابة، وعندما مات عُثر على مخطوط يحتوي على تصحيحات وتغييرات»(6)، إن كان العثور على ذلك المخطوط ينقض مقولة: الكتابة (دفعة واحدة)، فإنَّ تلك التغييرات لا تشتمل على دلالة نصيَّة فقط، بل تدعونا أيضًا إلى التساؤل: لمَ يسعى كاتبٌ إلى (محو فكرة وجود مراجعاتٍ وممحوَّاتٍ لنصٍّ من نصوصه)؟!
وإذا كانت فرجينيا مشغولة بتخمين كلمات ممحوَّة في نصٍّ، فإنَّ ممحوًّا هائلًا كان يشغل العقل العربيَّ الجامع المدقِّق، وهو اشتغال مشوب بحسرة فوات في قولٍ ينقله ابن سلَّام عن أبي عمرو بن العلاء: «ما انتهى إليكم ممَّا قالتِ العربُ إلَّا أقلُّه، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم عِلْمٌ وشِعْرٌ كثيرٌ»(7).
لقد كان قليلُ موجودِ الشعر العربيِّ دليل مفقوده الكثير، وهو (كثيرٌ) كان سيغيِّر خريطة النقد، وسيعيد – حتمًا – تنظيم مذاهب الشعر وأغراضه وموسيقاه، ستبقى هذه الثغرات مملوءة بالتخيُّل والافتراض، وهذه أرض خصبة للقلق والأسئلة: إذا كان مدار ما أُلِّف هو هذا الأقلُّ الذي انتهى إليه؛ فكيف به إن انتهى إليه كلُّه؟! وهذا سؤال لن تقرَّ عينُه بجواب! وكان الممكن – إذ ذاك – إقلال حالة القلق تجاه ما بقي ما استطاع أهل العربيَّة إلى ذلك جمعًا وتدوينًا في مواجهة سيرورة الزمان الماحية.
إنَّ الكلمات هي محافظ أفكارنا، وحين تسردُ الكلمات سيرةَ العقل، فإنَّ محوها لا يمحو هذا العقل، بل يسرده وهو في حالة عملٍ.. حتى إن كان عمله هذا ضدَّ نفسه!
** ** **
(1) غرفة تخصُّ المرء وحده، فرجينيا وولف، ت: سمية رمضان، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 2009. ص30.
(2) الأرض اليباب الشاعر والقصيدة، د. عبد الواحد لؤلؤة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط3، 1995م. ص87.
(3) أسئلة الشعر، ت: أحمد الزعتري، أزمنة للنشر، عمَّان، ط1 ،2009م. ص46.
(4) العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ابن رشيق، تح: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط5، 1981م. 1/129.
(5) البيان والتبيين، الجاحظ، تح: عبدالسلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط7، 1998م. 2/9.
(6) آليات الكتابة السرديَّة، أمبيرتو إيكو، ت: سعيد بنكَراد، دار الحوار، اللاذقية، ط1، 2009م. ص26.
(7) طبقات فحول الشعراء، الجمحي، تح: محمود شاكر، دار المدني، جدة. 1/25.