د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
{وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
توطئة
في سيرة الأستاذ حمد القاضي رموزٌ مكانية وزمانية وإنسانية مهمةٌ تستدعيها قراءةُ شخصه ونصِّه بما يعنيه ارتقاؤُه الساحةَ الثقافية جديرًا بمكانه، وانتقاؤه لهذا الملتقى حقيقًا بمكانته، والحديثُ عن رموز الرمز شبيهٌ بقراءةِ نصٍ يطرب إيقاعُه، وارتيادِ مساحةٍ يزينُ إيقاعُها، وفي هذه الورقةِ الموجزةِ تفاعلٌ بين رموز المسار وكنوز السيرة.
--
نشأ القاضي في بيئةٍ صغيرةٍ اكتمل فيها جمالُ الريف وحيوية المدينة مؤطرةً بثلاثة أبعادٍ جغرافيةٍ حملت تنوعَ التركيب وتكاملَ الترتيب، وهي أبعادٌ حدّدها جدُّه كبيرُ شعراء نجد في زمنه الشاعر محمد العبدالله القاضي 1224-1285هـ في بيته المتداول المتناول من قصيدة طويلةٍ مطلعُها نداءٌ للسحابة كي تقصد مدينته:
لعل براقٍ صدوقٍ اخْياله
محنٍ مرنٍ مرجحنٍ وهطّالْ
حين ارتكب كنّه شوامخ جباله
مترادفٍ ذيله يجي سيله ارسالْ
وهنا يحددُ موقعَ ديرته الذي لا يزال كما رسمه:
يسقي مفالي ديرة ضم جاله
ما يعجب الناظر بشوفه ويهتالْ
دارٍ لنا وادي الرّمةْ هو شماله
غربيّهْ الضاحي وشرقيّهْ الجالْ
هنا ولد ونشأ القاضي حيث الأبعاد الثلاثة: الجبلُ شرقًا، والنفودُ غربًا، ووادي الرمةِ شمالًا، وما تزالُ هذه المحدداتُ شاخصةً لتجعل بيت القاضي الشعري، ومغانيَ صبا حفيده مرتسمًا بهذه الصورِ الجغرافيةِ المتنوعة في مدينةٍ تسكنُ وسط هذه المعالم، ولم تزد مساحتها في وقت الجد وأول نشأة الحفيد على كيلومتر مربع واحد، وتحديدًا حتى تأسيس البلدية عام 1382هـ، والرقم مبنيٌ على معلوماتٍ مستقاةٍ من الخرائط الجوية التي رصدتها أجهزة المساحة العسكرية آنذاك، لكنها تضاعفت بعد ذلك حتى بلغت عام 1440هـ مئة كيلومترٍ مربع وفق إفادة مسؤولٍ في بلديتها قبل أيام.
لا شك أن لهذه الواحة الممتدةِ في عمقِ الصحراء وتكوينها: الجبلي -الرملي- المائيّ أثرًا في تعزيزِ موهبته القرائيةِ والكتابيةِ، وتوجيهها ليتفقَ شخصه ونصه في ملامح إنسانٍ مرهف الحسِّ، نقيِّ القلب، وأديبٍ رومانسيٍ حالمٍ بغد الحب لا الحرب، والوئام لا الخصام، ومع أن نموّه المعرفي قد تزامن مع آثار الهزيمة المدوية في حرب حزيران 1967م، وتبدلِ قضايا المثقفين والمبدعين حتى تحول نزار قباني من «شاعر الحب والحنين» إلى «شاعر يكتب بالسكين»، فإن القاضي قد اختطَّ الإطار الرومانسيّ الشجيّ في جداوله، وحروفه المنتحرةِ وتلك التي لم تنتحرْ، وهو قد أشبه هنا تجربة الشاعر والإذاعي فاروق شوشة 1936- 2016م الذي ابتدأ برنامجه الذائع: (لغتنا الجميلة) بعد ثلاثة أشهر من الهزيمة ليمنحَ خيط ضوءٍ وسط الإعتام.
--
توازن القاضي في تعليمه وعمله؛ فوجه دراستَه نحو هوايته الأدبيةِ واللغويةِ، وأكمل مساره «العالي والأعلى» في جامعتي الإمام والأزهر، لكنه في مساره العمليّ انصرفَ نحو تأسيس حياةٍ هادئةٍ طموحةٍ؛ فقضى شطرها الأولَ في التخطيط والتطوير والعلاقات بوزارة العمل، وشطرها الأوسطَ في التعليم العالي والإنتاج الثقافي، وشطرها الأخير في العمل الشوري، ولم ينأَ عن الطرسِ والزاج فواصل الكتابةَ كما ابتدأها وما يزال، وأضاف إليها الحضور الإعلاميَّ المرئيّ، وبقيت الكلمةُ زاده وزناده.
--
كنا طلبةً منتسبين إلى المركز الصيفيِّ ذي الخمسين يومًا، وعلى وشك اختتام الأنشطة المقررة، وقد أعدَّ صاحبكم مادةً منوعةً للعدد الختامي من مجلة المركز، وفيها مقولاتٌ ونقولاتٌ من مصادر تراثيةٍ ابتدأت بالآية الكريمة:
«ومن أحسن قولًا ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين».
وثنّاها بجزءٍ من قصيدة المتنبي:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا
وعناهم من أمره ما عنانا
وتولوا بغصةٍ كلهم منه
وإن سرَّ بعضهم أحيانا
ولا يذكر ما بعدها، ولا عنوانَها فوجدها قد عُنونت: «من الخمائل»، وقيل له حينها: إن مواد العدد قد عُرضت على الأستاذ حمد القاضي الذي جاء إلى عنيزة في زيارةٍ سريعةٍ اقتطع منها وقتًا للمركز ووضع لمساته على الإصدار الطلابيِّ الواعد.
--
ولا يزال يستعيد كتاب: «قضايا الشعر المعاصر» لنازك الملائكة الذي وجده في مكتبة الوالد رحمه الله وعليه اسمُ الأستاذ حمد فلعله استعاره منه، ومع أن الوالد لم يُدرّس أبا بدر في المعهد العلمي إلا أن بينهما صلةً جميلةً عززتها صداقةٌ جمعت الوالد وشقيق القاضي الذي يكبره، وهو الأستاذ سليمان حفظه الله، وقد تخرجا في كلية اللغة العربية ضمن دفعتها الثامنة عام 84/1385هـ، وتقاسما (الوالد وسليمان) سكنًا واحدًا قرب مصلى العيد في شارع الوزير بالرياض كما كان يسمى.
--
درس أبو بدر في معهد عنيزة العلمي، وتتلمذ على كبار الكبار، ويكفي أن كان من شيوخه وأساتذته: الشيخ محمد بن صالح العثيمين العالمُ المعروف، والشيخ علي بن محمد الزامل المعروفُ بامتلاكه ناصية النحو العربي وحفظِه ألفية ابن مالك وشرحه لها في كتاب مطبوع، عدا تمكنه من علوم الشريعة الأخرى، وكذا المشايخ: عبدالعزيز العلي المساعد في الفقه، والشيخ عبدالله بن حسن البريكان في العروض، والشيخ حمد بن محمد البسام في الفرائض والخطّ، وغيرُهم، وارتاد حلقات المساجد، ومن أبرزِها حلقة الشيخ محمد بن عثمان القاضي في حفظ القرآن الكريم والتجويد، وساند ذلك الجوُّ الثقافيُّ العام في مدينته حيث مجالس المنازل والمزارع، وتمشيات الضاحي والوادي والجال التي تجمع الأصدقاء والأساتذة أصيل كل يومٍ ومغربه.
--
تآزرت هذه العواملُ في تكوين أبي بدر الثقافيِّ الاجتماعيِّ الإنسانيِّ؛ حتى إذا أتيح له موقع صحفي ضمن أوائل من رأسوا القسم الثقافي في صحيفة الجزيرة تاليًا الأساتذة:
محمد السرحي، عبدالله نور، علي العمير، سعد الحميدين، أحمد البدلي سعى الأستاذ حمد إلى أن تكون صفحات الأدب والثقافة مشرعةً لشداة الكلمة وأساتيذها، وحين رأس تحرير «المجلة العربية» صارت مجلةَ الجميع، وبدت مقروءةً ومقبولةً لأكثر التوجهات، وميزها استضافةُ الكبار من ذوي الذكريات، وإمدادُ النشءِ بالخبرات، وجمعُ الإبداع والإمتاع، ونأى بها القاضي عن الرسمية والترسم، ولم تجئ استنساخًا لمجلاتٍ ثقافيةٍ متزامنةٍ كالمنهل والعرب والعربيّ، ولم تُغنِ واحدةٌ عن الأخرى؛ فالتقى التميز والشمولية.
--
في رموز حياة القاضي موقفٌ أهم، وهو تأثيرُ رحيل والدته المبكر -رحمها الله- إذ ما فتئَ يذكرها ويُذكّرُ بها، ولا شكَّ أن مثل هذا الفقد بأحزانه وأشجانه قد ولّد قلبًا مرهفًا، ونفسًا رضيةً، وروحًا تألمُ للآخرين وتُعايش معاناتهم، وقد عُرف القاضي بإيثاره، وتفقده أحوال الآخرين، ومدّه جسورًا مع المسؤولين ومع الميسورين كي يرفأ جرحًا، ويمسحَ دمعًا، ويواسيَ مكلومًا وحزينًا وذا حاجة.
--
ولعل من الكنوز التي تحملها جوانحه وفاءَه للجميع ومع الجميع، وكتبه الوفائية ومحاضراته عن الشيخ حسن آل الشيخ والشيخ حمد الجاسر والدكتور عبدالعزيز الخويطر والدكتور غازي القصيبي مشهودة، ومما لا يعرفه الأكثرون أننا قد كونَّا -خارج مدارات الإعلام- مجموعة لأوفياء الكلمة عرّابُها أبو بدر، وكرمنا فيها الأستاذ عبدالله الناصر والشيخ أبا عبدالرحمن ابن عقيل والدكتور خالد العنقري، وغيرَهم، وتوقفت مؤقتًا بسبب الجائحة الكوفيدية، وفي تقديرنا أنها ستعود بعون الله.
--
امتدَّ وفاؤه إلى قهوة جده الشاعر محمد العبدالله القاضي؛ فقد حرص على تخليد قصيدته الذائعة عن القهوة، وأولها:
يا من لقلبٍ كل ما التمّ الأشفاقْ
من عام الأول به دواكيك وخفوق
فصنع قهوةً وفق مواصفات النصّ أسماها «قهوة القاضي» إهداءً لضيوفه:
لا عنّ لك تذكار الأحباب واشتاق
بالك وطاف بخاطرك طاري الشوق
دنيت لي من غالي البن ما لاق
بالكف ناقيها عن العذف منسوق
احمس ثلاث يا نديمي على ساق
ريحه على جمر الغضا يفضح السوق
وبقية الوصفة لدى الشاعر الجد والأديب الحفيد.
--
في كنوز ذاته المضيئة تواضعه، وأذكر أني دعوته وبعضَ رموزنا الثقافية إلى عشاءٍ شبهِ رسميٍ في قاعة سكن معهد الإدارة حيث كنتُ أعمل، وحضر هو والأستاذ الراحل راشد الحمدان فرفض مسؤول الأمن عند بوابة السكن إدخالَهما حيث لم يعرفْهما، وذهبتُ لاستجلاء الموقف فوجدتهما قد حضرا بسيارة «ونيت» منتهية الصلاحية ملأى بآثار البرسيم والحبحب والتمور، وهي خاصةٌ بمزرعة الحمدان رحمه الله، وضحكنا والمدعوون كما لم نتوقع.
--
الخاتمة
--
استطاع حمد القاضي أن يكسب الوسطَ الثقافيَّ كلّه حتى لَيكادُ يعدمُ الذامّ، بالرغم من عُسر هذا الوسط وصعوبةِ إرضائه وندرة المنتمين إلى أجوائه الاجتماعية، وهذه من أفضال الله عليه أولًا وآخرًا، وهي نتاجُ أسلوبه المهذَّبِ في التعامل والتفاعل، ويجزم عارفوه أنه لم يبتْ ليلةً من غير أن يتواصلَ مع عددٍ من أساتذته وزملائه ومحبيه يكملُ بقيتَهم في أيامٍ تالية، كما لا يمكثُ وقتًا من غير أن يدعوهم إلى منزله، وكذا عهدنا حمد بن عبدالله بن سليمان القاضي؛ إذا كتبَ فهو الحفيُّ، وإن خطب فهو الوفيُّ، وإن ألّفَ طروسًا فقد قدّم دروسًا ألّف بها القلوبَ مثلَ العقول، ورسم الوسوم فوق الجسوم، وأذكى فيها الأذواقَ والأفهام.
--
وبعد يا أبا بدر:
أنهي ورقتي ببيتي المتنبي الذي يجمعنا حبه:
إنما التهنئات للأكفاء
ولمن يدني من البعداء
وأنا منك لا يهنئ عضو
بالمسرات سائر الأعضاء
ورقة مقدمة في (ملتقى النص الثامن عشر) جدة - النادي الأدبي الثقافي