د. عائض الردادي
أحسن نادي جدة الأدبي الثقافي صنعاً عندما اختار حمد القاضي شخصية مكرمة، حمد القاضي الأديب، الكاتب الإعلامي، المثقف، الإنسان.
عرفته في وقت مبكر، عندما كنا طالبين في كلية اللغة العربية في الرياض، جمعنا مبنى واحد ولم يجمعنا فصل دراسي واحد، فهو يسبقني بسنتين، وكان وقتها يكتب زاويته «جداول» في صحيفة الجزيرة، وقل ذلك بين الطلاب إذ ذاك، ثم جمعتنا مرحلة الدراسة في الماجستير، ورحلة العمل في الإعلام، وفي القاعة الذهبية في مجلس الشورى وفي مؤسسة حمد الجاسر الثقافية، وفي اجتماعات أو لجان أو ندوات ثقافية.
عرفت حمد القاضي الإنسان المحب للخير، المشفق على المحتاج، الحريص على فعل الخير مما لا يظهره للناس كثيراً، البار بوالدته التي حرم من حنانها في سنوات الطفولة المبكرة، ومن ذلك بناء مسجد صدقة عنها.
وعرفته باسماً، عف اللسان، يحرص على ألا يغضب أحداً، ودائم السعي في رضا الناس، ومن أفضل ما قيل عنه في ذلك ما قاله دكتور عبدالعزيز الخويطر في كلمته في حفل تكريمه في اثنينية عبدالمقصود خوجة في جدة حيث ورد فيها: «لسان حمد عفّ، وقلمه نزيه، وطالما رأيته يزيل شائبة بين متجادلين لجَّ بهما الحِجاج، وطالما رأيته ينعّم خشونة متقاذفين، باسمٌ لا يريد أن يرى إلا الابتسامة».
صحبته حضراً وسفراً فوجدت فيه خير رفيق في السفر، حفاظاً على الدين، وكريم الأخلاق، وبذل ما وسعه من جهد في إسعاد رفيقه في السفر، وإضفاء ما وسعه من جهد في راحة مصاحبيه، وقلما تخلو حقيبته من كتب أو قصاصات صحف لم يتمكن من قراءتها في حضره، فهو منهوم قراءة إذا وجد ما لم يتسع له وقته حفظه ليقرأه إذا وجد الوقت المناسب في السفر.
وقد أفاض علامة الجزيرة حمد الجاسر في صفاته في كلمته في الاحتفاء بحمد القاضي في اثنينية عبدالمقصود خوجة، وأقتطف منها: «إن الوفاء والحياء أبرز صفاته، يتضح أن مفتاح شخصيته هاتين الصفتين الكريمتين، فالوفاء هو التخلق بأنواع الفضائل، وبالحياء يتم الترفع عن جميع الرذائل، وبالحياء يستكمل المرء صفة الإنسانية الكاملة، ويحل أسمى منزلة في نفوس إخوانه؛ لصداقته، وعفة لسانه، ووفائه، ومواساته، ونصحه، وتحببه إليهم حتى يصبح كما قال الشاعر:
كأنك من كل النفوس مركبٌ
فأنت إلى كل الأنام حبيب (1)
عُني في كتاباته بالشأن العام وهموم المجتمع، وقد لا يكتفي بذلك بل يهاتف المسؤول أو يزوره ليشرح له، سعياً لحل مشكلة المحتاج، وبرز في كتاباته الوفاء للراحلين، وقد جمع بعضها في كتابه «غاب تحت الثرى أحباء قلبي»، ويأتي في هذا الإطار كتابه «قراءة في جوانب الراحل غازي القصيبي الإنسانية» وهو عضو في الهيئة الاستشارية لكرسي غازي القصيبي للدراسات الثقافية والتنموية، ومثل ذلك ما فعل في الوفاء للدكتور الخويطر بإصدار كتابه «عبدالعزيز الخويطر وسم على أديم النزاهة والوطن» وكتاب «حسن آل الشيخ الإنسان الذي لم يرحل».
عشق اللغة العربية ودافع عنها بالبيان فيما كتب، وباللسان في المؤتمرات والندوات واللقاءات في الإذاعة والتلفاز، وهو عضو في مجلس أمناء مركز الملك عبدالله لخدمة اللغة العربية.
وعشق الكلمة الجميلة ورسم بها مقالاته، ولعل ما وصفه به دكتور غازي القصيبي قد أصاب عين الحقيقة في قوله: «حمد القاضي لا يغمس قلماً في مداد ويكتب على ورقة، إنه يغمس وردة في محراب الحب، ويكتب على شغاف القلوب، لهذا تجيء كلماته رقيقة دوماً، ناعمة دوماً، كوردة مغموسة في محبرة الحب (2).
كتب حمد القاضي مئات المقالات، وأشرف على عدد من الملاحق الأدبية والثقافية، ولم تصرفه الوظيفة العامة عن القراءة والثقافة والكتابة، واشتهر كاتب مقال أدبي وثقافي، لكن ما فاق ذلك هو ارتباط اسمه بالمجلة العربية، وارتباط المجلة باسمه، بدأ فيها مديراً للتحرير ثم صار رئيس تحرير، ولعل الدكتور محمد عبده يماني اختصر ما فعله حمد القاضي في النهوض بها في قوله: «انتشل المجلة العربية من الأبراج العاجية فأنزلها إلى مستوى الناس، وجعلها في متناول الناس، وأقبل الناس عليها يقرؤونها، ويكتبون فيها ويتناولونها (1).
مهر حمد القاضي في تنوع موضوعاتها الثقافية، وتيسير صياغة المواد العلمية لتكون في مستوى الجمهور العام، وأنزلها من البرج العاجي كما قال الدكتور اليماني، ثم فتح مجال الكتابة للمثقفين من الداخل والخارج واحتفى برسائل القراء، ولذا كان القراء -داخلياً وخارجياً- يتطلعون كل شهر لصدورها، وأضاف لها إصدار كتيب مرافق لكل عدد محصور في الموضوعات الثقافية، قال لي مثقف آنذاك: إن المجلة العربية لا تنشر بحوثاً ودراسات، فقلت له: المجلات نوعان: مجلات بحوث وهذه موجهة للباحثين والأكاديميين، ومجلات تثقيف، وهي تعنى بتيسير العلوم للقارئ العام لتثقيفه، والمجلة العربية تدخل في هذا الحقل، فاقتنع بما قلته (2).
ومما عنى به في المجلة الذكريات والمذكرات للمثقفين، وهم يروون سيرهم الذاتية مثل «التباريح» لأبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، ورحلة «الأمل والألم» لأحمد بن علي المبارك، و»نفحات من الماضي العبق» للدكتور يوسف عز الدين، و»مذكرات صحافي ناقص الذاكرة» لعلوي طه الصافي وغيرهم.
وأهم تلك السير سيرة علامة الجزيرة حمد الجاسر التي نُشرت في المجلة تحت عنوان «من سوانح الذكريات» خلال الفترة من رجب 1406هـ (مارس 1986م) إلى رجب 1417هـ (أكتوبر ونوفمبر 1996م)، وقد جُمعت ونشرت بعد وفاته في مجلدين، وهي ذكريات حوت تاريخاً لا يوجد في مصادر أخرى لأنها رواية شاهد عيان ولو لم يكتبه حمد الجاسر لضاع، وقد صاغها بأسلوب أدبي فهي تاريخ مؤدب وأدب مؤرخ، ويعود الفضل إلى حمد القاضي الذي أقنع حمد الجاسر بالكتابة وتحمّل ما تحمل من معاناة نشرها، ولأنه كان أثيراً عند الشيخ حمد الجاسر ما زال يلح عليه حتى أقنعه بكتابتها في حلقات، وضُمَّ إليها في الكتاب ما لم ينشر في المجلة وهو ليس بالكثير، وقد أشار حمد الجاسر إلى أن هذه الذكريات ستكون أوفى تفصيلاً لو أنه بدأ تسجيلها في وقت كانت الذاكرة فيه أقوى مما عليه الآن ولكن ما استدركه حمد القاضي فيه خير كثير.
وفي السوانح تاريخ للتعليم وللقضاء، وللقبائل والأسر، وللصورة العامة للمجتمع في مناطق المملكة عند بداية انفتاحها على العصر الحديث، وفيها رسم صورة للرياض عام 1341هـ، وصورة لحياة الفلاحين، ولحياة الطفولة من خلال طفولته، ولحياة البادية التي صورها صورة من عاش فيها، وغير ذلك مما صوره وأرخ له تاريخ من عاش الأحداث مما لا يوجد إلا فيها.
وعندما بارح حمد القاضي رياسة تحرير المجلة، بعد 27 عاماً، رافقه حزن وتأبين وأستعير العبارة التالية من مقال طويل للأستاذ عبدالعزيز بن عبدالله السالم التي أوجزت ذلك في قوله: «لم يسبق أن احتشدت الأقلام، وسالت الأحبار بمداد الكلمات، كلها تحمل الأسى لفراق المجلة العربية لربانها البارع وقائد دفتها المتألق؛ كما احتشدت في وداع رئيس تحرير هذه المجلة (2).
هذه إلمامات عن حمد القاضي الإنسان، الأديب، الكاتب، الإعلامي، المثقف، ذي الحياء والوفاء، فشكراً لنادي جدة الأدبي والثقافي على تكريمه وعلى إتاحة الفرصة للحديث عنه.